واهمٌ من يظن أن نار الطائفية ستحرق طرفاً وتترك الطرف الآخر سليماً؛ لأن اشتعالها سيحرق الأخضر واليابس بما في ذلك أيدي من أشعلها أو من ساهم في صب الزيت عليها، كما أنه واهمٌ أيضاً من يظن أن بروز الاصطفافات الفئوية والطائفية في الآونة الأخيرة بشكل حاد ومضرّ بالاستقرار والسلم الاجتماعيين كان مفاجئا.

Ad

فالقضايا والأزمات والمشاكل العامة لا تبرز هكذا فجأة، إذ لا بد أن يسبق بروزها النوعي إلى السطح تراكمات كمية تتكون خلال سنين طويلة، وتكون عادة نتيجة لسياسات حكومية فاشلة؛ لأن الحكومة هي المسؤولة عن إدارة شؤون الدولة والمجتمع، وهو ما يتطلب وضع سياسات عامة نوعية لحماية المجتمع من آفات الطائفية والفئوية والعنصرية التي تستهلك جهود الناس من ناحية، وتصنع جدراناً وهمية بينهم بدلا من جسور التسامح والمحبة والتعاون لبناء وطن جامع يتسع لجميع مواطنيه، بحيث تكون معايير الكفاءة والجدارة هي التي تميّز أحدهما عن الآخر.

صحيح أننا نعيش في وسط إقليم مضطرب وغير مستقر سياسيا تتجاذبه مصالح مختلفة ومتعارضة لقوى كبرى عالمية وإقليمية، وصحيح أيضا أن للنزاعات الإقليمية دوراً في إذكاء الصراعات الطائفية، لكن هذا الدور يقل أو يتلاشى إذا كانت الجبهة الداخلية متماسكة ومستقرة، والعكس صحيح، وهو ما يعني أن السياسات الداخلية هي الأساس في المحافظة على تماسك المجتمع.

لقد كان لضعف مؤسسات الدولة وعدم سيادة القانون دورٌ مشجعٌ للاصطفافات الطائفية والفئوية، وهو ما أدى إلى وجود سياسات عامة سيئة لعبت دورا سلبيا في عملية الاندماج الاجتماعي بين مكونات المجتمع المختلفة ومنها، مثالا لا حصراً، سياسة تقسيم الدوائر الانتخابية سواء إلى 25 دائرة في عام 1980 أو إلى 5 دوائر عام 2006 التي ترافقت مع اصطفاف حكومي واضح مع فئة اجتماعية ضد أخرى، وأيضا تحالف سياسي بين الحكومة السابقة ونواب طائفيين يمثلون طائفة معينة، وهو ما عكسه نهج الحكومة السابقة وسياساتها العامة التي كانت ترمي إلى تحقيق أهداف سياسية ضيقة وآنية، حيث سمحت للإعلام المملوك لأطراف قريبة منها باستخدام خطاب الكراهية المدمر للنسيج الوطني، ولم تطبق القانون على الجميع، بل إنها تتعسف أحيانا في تطبيقه!

والآن... ما العمل؟

إن الاكتفاء بإدانة وشجب واستنكار الاصطفافات الفئوية والطائفية الضارة بالنسيج الوطني التي برزت على السطح أخيراً، وعكستها نتائج الانتخابات والتحركات السياسية ذات الصبغة الطائفية التي جرت أخيراً، أو المطالبة بقوانين جديدة تجرّم خطاب الكراهية أو إذاعة الأغاني والقصائد "الوطنية" لا يسمن ولا يغني من جوع، ما لم يترافق كل ذلك مع البدء بصياغة وتنفيذ سياسات عامة جديدة ونوعية تدمج مكونات المجتمع في مكون وطني جامع يتساوى فيه المواطنون جميعا في الحقوق والواجبات، ويطبّق فيه القانون على الجميع دون استثناء.

وفي هذا السياق فإنه من الضروري إصلاح النظام الانتخابي بحيث تكون المعركة الانتخابية معركة سياسية حقيقية مع حظر التنظيمات الطائفية المسيّسة التي تمهد الأرضية لأمراء الطوائف؛ لاستخدام العواطف البريئة والصادقة للناس البسطاء لتحقيق أجندتهم السياسية.

أخيراً وليس آخراً فإنه من الأهمية بمكان حظر التجمعات والدعوات العامة الطائفية والفئوية التي تروّج لخطاب الكراهية؛ لأن هنالك فرقاً شاسعاً بين حرية الرأي والتعبير التي تنص على احترامها المواثيق الدولية ويصونها الدستور، وخطاب الكراهية المجرّم دوليا ودستورياً.