في كل فترات تاريخ الثقافة العربية بدءا من عصرها الجاهلي الأول حتى عصرها الجاهلي الحالي، وهي تعيش ببعض رئة ودونما قلب وبلا ذاكرة. في كل فتراتها الحالمة البياض والحالكة السواد والرمادية وهي تقع بين كماشة الشاعر وسيده السلطان والرئيس والأمير والملك وتلقي خارج أطرها الملتزم والمعدم والمريض بحب الأرض والناس البسطاء. وفي كل فتراتها منذ جاهليتها البيضاء وحتى جاهليتها السوداء وهي تؤطر أبناءها بين قريب الى قلبها الاعلامي والاجتماعي ومنشق عابث خارج على ملة السيد وبلاط جلالة الرئيس. وبين الخيارين اختارت الأغلبية ذهب الرئيس وصرة ماله وطرف مائدته وهجرت خبز الفقراء وملحهم، اختارت نعيم البلاط مقابل هجير البؤساء.
ومنذ الجاهلية الأولى شاع ذكر أبناء البلاط وانتشرت مدائحهم وحفظت الناس سيرهم وهجرت من كان منهم وكان لهم. ورغم سخرية الموقف وسوداوية المشهد ولكنه مشهد حقيقي. نحن نعرف الأسماء القديمة التي أنشدت "فما يسمى كفناخسرو مسم ... وما يكنى كفناخسرو كان" وليس بالضرورة أن نعرف من هو فناخسرو ولكنه بالتأكيد صاحب مال يسيل لعاب الشعر من فم شاعرنا العظيم. ونعرف أن الشعر – ثقافتنا الأولى – هو ما يعجب السلطان أولا وأن قيمته بحجم ما يمنح الشاعر من مال. هكذا تعلمنا أغراض الشعر ودوافعه.لم يختلف حالنا في الجاهلية الآنية عن جاهليتنا الأولى، فما زال منتهى طموحنا أن يدعونا سلطان الى حفلة شعر أو مهرجان وغاية أملنا أن نسلم من أذي السيد الرئيس وأجهزته دون أن ينقص ذلك من بهاء شعرنا وروعة بياننا. وقربنا من الجمهور وابتعادنا عنه مرهون بقربنا من جنة الزعيم وبعدنا عن ناره. يمنحنا الزعيم جائزته ونقبلها بكل سرور ونحرك جيوش الأقلام الصغيرة حولنا لتمدح جائزتنا ومانحها وحين تحين فرصة الانقلاب على الزعيم ننكره وننكر جائزته لكن لا نردها الى المساكين الذين سرقها منهم الزعيم كما فعل جابر عصفور بجائزة القذافي.لم يختلف حالنا في جاهليتنا اليوم والشاعر الكبير يراهن على ذهب السيد الرئيس ويتنكر لدماء البسطاء الذين كلما نظروا اليه خر بصرهم دون أن يجدوه. أدونيس شاعر كبير ولا جدال في ذلك ولا أتفق مع من ينقص من قدرته الشعرية ولكنه ليس شاعر الناس، وسعدي يوسف شاعر كان كبيرا يوما ما ولا أتفق مع من ينقص من قدرته الشعرية لكنه ليس شاعر الناس.منذ جاهليتنا الأولى وحتى جاهليتنا الحالية وشعراؤنا الكبار –في الأغلب– هم رموز هزيمتنا وقدوة شعرائنا السيئة، شعراؤنا الكبار يتساقطون ونحن نطالب بأن نخرج من عباءة جاهليتنا الأولى. حين يصرخ الناس الشعب يريد اسقاط الرئيس على مثقف الناس البسطاء أن يصرخ المثقف يريد اسقاط رموز هزيمته وأن يتخلص من كتل الرصاص التي أثقلت عقله ويتخلص من عقدة الشاعر الكبير فنا الصغير وعيا انسانيا.سننتظر طويلا حتى نجد شاعر الأمة يضم صوته اليها ويمسح بأكمام كلماته دموع أطفالها وهلع أمهاتهم ورفات آبائهم الذين تساقطوا بفوهات مدافع جيوشهم، سننتظر طويلا لأن الشاعر الكبير لا يتنازل عن رهانه الأكبر على سيده الزعيم الأوحد وعلينا ألا نتازل عن احراق ما كتبه لنا طيلة جاهليتنا التي ستنتهي وتبقى جاهليته الأبدية.
توابل
رموز الهزيمة
26-06-2011