الشعراء يتبعهم الغاوون، وأنا من عتاة الغاوين، إذ حتى وأنا مشغول أترك الباب موارباً للشعر كي أبقى على قيد الحياة، فلا حياة بلا شعر.

Ad

ويقول الفيزيائيون والكيميائيون إن هطول المطر سببه «عملية التكاثف»، ويقول الشعراء وعشاق الحرف إن المطر ما هو إلا دموع غيمة تشارك شاعراً آلامه.

وأنا هنا أتحدث عن «الشعر الشعر»... دعك من الأمسيات الشعرية في الفنادق الفاخرة وأصبوحات كليات الجامعة الفاجرة (الفجور يعود إلى الأصبوحات لا إلى الجامعة)، وتمتم لنفسك: «يفتح الله» إذا سمعت شاعراً ذا أنامل مترفة يتصنع المعاناة في شعره، واحمل مزودتك على ظهرك واهرب مغيب شمس، فلا شعر في القصور والفلل، إلا ما ندر.

أقول هذا وأنا أشاهد الآن على إحدى الفضائيات «شاعراً» خليجياً كالزبدة التي ستذوب بعد قليل، ابتسامته خجلى، وعيونه تُسلهم حياءً وخفراً، يحكي معاناته وهو يرتدي «البشت»، وعلى معصمه تلتمع ساعة أغلى من مهر «كيت» زوجة وليام، وفي الصف الأول من الحضور يتزاحم مسؤولون يشع من أعينهم نفاق يُخجل عبد الله بن سلول، ومن أفواههم تفوح ابتسامات الرقيق، ويقاطعون أبياته بالتصفيق الصفيق، وهناك تتزاحم «معجبات» ترتدي كل منهن «النقاب الكذاب»، يطلقن آهات كالنعيق والنهيق.

لا أنكر أن ما يقوله هذا المترف «شعر»، بل هو شعر فاخر يسقي غرس القلوب، وأشهد أن الحمام على الأغصان القريبة ترك ما في يديه وأرخى آذانه وفغر أفواهه لعظمة هذا الشعر... نعم أشهد أنه شعر ويشهد عشاق الحرف قبلي على جزالته، لكنني أقسم يميناً ويساراً أن من أراه أمامي سارق للألم، وأقسم بأغلظ الأيمان وأطولها أنه لا يشعر بما يقوله ولا يفهمه أصلاً... هذا الإبداع، جزماً، لشاعر تعرّض للسموم والعواصف و»لواهيب الشمس» فخرجت منه هذه الأحرف الفاخرة، فالشعر كاللؤلؤ، إذا عانت المحارة الألم بكت فكانت دمعتها لؤلؤاً، ولا لؤلؤ من دون ألم، وصاحبنا «الشاعر المترف» كان آخر بكائه عندما خرج إلى هذه الدنيا من بطن أمه، قبل أن يبدأ «معاناته» مع العسل.

الشاعر المترف المتصنع أمامي على الشاشة اعتاد تناول إفطاره «بالهناء والشفاء» في حين أن القصيدة التي يقرأها أمام «الجمهور» هي لشاعر تناول آلامه «بالعناء والشقاء».

ستقول: «أعذب الشعر أكذبه، وليس شرطاً أن تحترق بالنار لتصف قسوة الحرق» فأرد عليك: «ويل أمك وأم أمك... هذا المترف لا يفهم ما هو مكتوب له، هذا يقرأ قراءة خاطئة كاذبة باهتة، لا يعرف «الوقفات والحركات»، ولا يعرف متى يتساءل في وقت التساؤل، ولا كيف يبدي السخرية في وقت السخرية... هو يقرأ كما يقرأ التلميذ أمام موجّه اللغة العربية (حافظ ويسمّع)... هو شوّه القصيدة وبقرَ بطنها وجعل أعزة حروفها أذلة... سحقاً له ولجمهوره وللفضائيات التي تنقل غثاءه... وتباً للجوع الذي أرغم شاعراً حقيقياً على الانحناء كي يُسكت صراخ بطنه».