في خطابه المهم والشامل مفتتحاً دور الانعقاد الأربعين لمجلس الشورى، حدد سمو أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني المرتكزات الأساسية لاستراتيجية دولة قطر في البناء والتنمية والإصلاح الشامل ودور قطر في محيطها العربي والإقليمي والدولي في عالم اليوم انطلاقاً من "رؤية قطر الوطنية 2030 للنهضة والتنمية المستدامة".

Ad

بدأ سموه بتأكيد أن هذا اللقاء يكتسب أهمية خاصة من أجل إلقاء نظرة على المسار بشكل عام، ولتذكير الأجيال الصاعدة التي تنعم بثمار الإنجازات المتحققة بأنه "لا شيء يُجنى من دون جهد وتخطيط في خدمة الوطن"، مشيراً إلى عاملين مهمين: الأول، الأحداث التي تعصف بالمنطقة وتغير وجه وطننا العربي. والثاني، تطور مسيرة الإصلاح العام في قطر منذ أن تولى سموه مقاليد الحكم 1995.

فيما يتعلق بالعامل الأول، فقد راهنت قطر منذ البداية على "العدالة والإنصاف" قيماً إنسانية للشعوب كافة من دون استثناء و"خلافاً لما كان يدعى"، فالشعوب لا تسكت على الضيم للأبد؛ ولذلك لم تجد قطر صعوبة في تقبل ما يجري، "ولم نجلس منزوين متحسرين على وضع ترفضه الشعوب". وإن كانت قطر تفضل أن تقوم الأنظمة بالإصلاح وتقود التحول بدلاً من أن تنتفض الشعوب، ولعل في عبارة سموه "وخلافاً لما كان يدعى" إشارة إلى خطاب سموه في مؤتمر الإصلاح والديمقراطية في الوطن العربي- بالدوحة يونيو2004- حيث فنَّد المبررات والذرائع كافة التي كانت تدعى لرفض أو تأجيل الإصلاح مثل: مقولة أولوية حل القضية الفلسطينية على الإصلاح، إذ قال سموه "الغضب العربي لا تحركه القضية بمفردها وإنما له روافد داخلية أخرى عميقة تمس الأداء السياسي والاقتصادي بالمنطقة".

وترديد فزاعة أن الإصلاح العربي يهدد مصالح الدول الكبرى، فندها سموه بقوله "إن هذه الحجة غير مقبولة بعد ما اكتشف العالم أن مخاطر عدم الإصلاح تفوق بكثير كل المخاطر التي قد تصاحب القيام به"، وكالقول بأن كل بلد له ظروفه وخصوصياته ونحن أدرى بما يصلح لنا من الغرب، حيث قال سموه "إن الإصلاح مشترك إنساني وللخصوصيات احترامها".

وكالقول بتناقض الديمقراطية مع الإسلام، رفض سموه هذه الحجة الزائفة بقوله "إن من يرفض الديمقراطية باسم الإسلام، إنما يرفض الإسلام ذاته فالشورى والحرية والمسؤولية والمشاركة والحوار من صميم قيم الإسلام"، وكحجة تحميل الخارج مسؤولية تردي الأوضاع "نظرية المؤامرة"، قال "المراجعة يلزمها منهج صريح لا يزين أو يزيف بل يصارح ويصحح ويبدأ بنقد الذات قبل أن يلقي التبعة على الآخرين واقتداءً بقول الصديق أبي بكر: أصلح نفسك يصلح لك الناس".

أما فيما يتعلق بالعامل الثاني، فقد استطرد سموه منبهاً "علينا ألا نكتفي بتهنئة أنفسنا على إنجازاتنا بل علينا تأكيد ما إذا كانت رؤانا وتطلعاتنا تتلاءم مع طموحات وآمال شعوبنا"، وأضاف "يمكنني التأكيد وبضمير مرتاح أننا فعلاً نقف على أرض صلبة"، فالاقتصاد القطري في مأمن من المخاطر ومن المتوقع أن يحقق نمواً يتجاوز 20% نهاية العام، وقد حلت قطر في المرتبة الأولى عالمياً بسهولة الحصول على القروض وتوافر رأس المال، وصنف الاقتصاد القطري واحداً من أفضل 5 اقتصادات عالمية.

وفي الوقت الذي تعاني فيه معظم الدول المتقدمة عجزاً في موازناتها فإن قطر ومنذ عام 2000 مستمرة في تحقيق فوائض مالية متصاعدة مكنتها من التوسع في استخراج الغاز وتصديره لتصبح في طليعة دول العالم فيهما، وليصبح الاقتصاد القطري الأسرع نمواً، وهذا مكن قطر من زيادة إجمالي الإنفاق 19% على المشروعات العامة: إنشاء الميناء الجديد، ومشروع سكة الحديد، استكمال مطار الدوحة الدولي وغيرها من مشاريع البنية التحتية مع أولوية قطاعي الصحة والتعليم.

ونوه سموه بدور "جهاز قطر للاستثمار" باعتباره أداة استثمار بعيدة المدى لأجيالنا القادمة، ولأن لكل أمر جوانبه السلبية المحتملة فقد نبه سموه إلى جملة من التوجيهات لتفادي تلك السلبيات، منها: 1- تنويع الاقتصاد القطري وتقليل الاعتماد على النفط والغاز. 2- فحص مواطن القوة والضعف في الاستثمارات الخارجية المتزايدة. 3- تغيير إعداد الموازنة العامة مواكبة لمسار استراتيجية التنمية الوطنية "2011– 2016". 4- بوجود معدلات تنمية عالية في قطر تنشأ احتمالات التضخم المالي وعلينا مواجهتها عبر أسلوبين: امتصاص السيولة بزيادة العرض وكسر الاحتكار بالاقتصاد التنافسي الحر. 5- مع تفهم فرحة المواطنين بزيادة رواتبهم وارتفاع مستوى معيشتهم وهذا حقهم في دولة تعتبر غنية لكن "سنكون بلا بصيرة إذا لم نر المخاطر الناجمة عن المكافأة المالية دون جهد مبذول أو تحسن في الآداء". 6- المطلوب من الوزارات وغيرها: تأكيد ثقافة العمل والإنتاج مقابل خطر انتشار ثقافة الكسل والاستهلاك. 7- إن مستقبل قطر مرتبط بأخلاقيات العمل والإنتاج والإتقان كجزء من قيمنا وهذا لا يتم بمجرد الوعظ والنصيحة إنما أيضاً بالمراقبة والمحاسبة والتقارير الشفافة بكل دقة وأمانة طبقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

وعودة إلى البدايات، ذكّرنا سموه بالتحديات الصعبة قائلاً "من منّا لا يذكر تلك الأيام الصعبة حين اضطررنا للدخول في مجازفات كبرى حين كان الاقتصاد القطري في ركود في بلد ينتج 300 ألف برميل نفط يومياً؟ لقد اضطرت قطر لاقتراض المليارات للدخول في مشاريع كبرى: الغاز والبتروكيماويات وتحديث حقول النفط، ووصلت نسبة الديون عام 1998 إلى 111% من مجمل الناتج الوطني، كان البعض يعتبرها مغامرة، لكننا قبلنا التحدي وراهنا ونجحنا، وأنا إذ أتحدث إليكم اليوم، تبلغ ديون قطر 23% وهي نسبة قليلة بالمقاييس الاقتصادية، وكان الناتج القومي عام 1995 (29.6 مليار ريال) وأصبح في عام 2010 (463.5 مليار ريال) "أي" تضاعف 16 مرة في 15 عاماً"... أما معدل دخل الفرد فهو الأعلى عالمياً.

كيف تحقق ذلك؟ وكيف نجحت مسيرة الإصلاح الشامل؟

1- قال سموه "لقد اعتمدنا على الله عز وجل" 2- وأضاف "وعلى شعبنا الصلب وقناعته الراسخة بحتمية تطوير وتحديث قطر وبناء دولة حديثة مستقلة في اقتصادها وبالتالي في قرارها السياسي". 3- وبالاستثمار في أعظم ثروة وهو الإنسان. 4- وبالتخطيط المدروس، وللتوضيح أقول: يتميز منهج الإصلاح القطري باعتماده على "الأسلوب المتدرج" والمحسوب وبتوازن محكوم بضوابط شرعية واجتماعية تفادياً لأي هزات سياسية أو انتكاسات مجتمعية.

وقد تجسد هذا الأسلوب في مربع الإصلاح:

أ- إصلاح سياسي متدرج نحو بناء المؤسسات وسيادة حكم القانون، وتوسيع قاعدة المشاركة، وتفعيل دور المواطن، وإلغاء الرقابة، وتوفير الحريات الإعلامية، وإنشاء قناة الجزيرة منبراً للإعلام الحر، وإجراء انتخابات عامة مفتوحة للجنسين، كما شهد المجتمع القطري أول استفتاء عام على أول دستور دائم أيده 97%.

ب- إصلاح اقتصادي مدروس بتوسيع قاعدة مشاركة القطاع الخاص وغير الحكومي في أعباء التنمية عبر تحرير الاقتصاد وتبني الخصخصة وقوانين جاذبة للاسثمار، وخلق بيئة ملائمة للشراكة الاقتصادية وجاذبة للسياحة والمؤتمرات، كان من ثمراتها تصدر قطر تقارير "منظمة الشفافية الدولية 2010"، لكن الطموح القطري يستهدف إنشاء مشاريع عملاقة سياحية ورياضية وأكاديمية تعد الأكبر في مشاريع المنطقة.

ج- إصلاح اجتماعي منضبط بإنشاء المجلس الأعلى للأسرة، وصدور قانون الأسرة وتمكين المرأة القطرية ووصولها إلى مناصب قيادية وقضائية.

د- إصلاح تعليمي متميز يقوم على التطوير المستمر للنظام والمناهج والتدريب بالاستعانة ببيوت الخبرة العالمية التي تعتمد معايير دولية لتقييم المخرجات والانفتاح على أنماط من التعليم العالي المتميز: "كورنيل للطب"، و"فرجينيا كومنولث للتصميم"، و"الهولندية للفندقة والسياحة"، "شمال الأطلنطي الكندية"، و"كارنيغي ميلون" لإدارة الأعمال، و"تكساس للهندسة"، و"جامعة قطر" مما يوفر فرصاً أمام الطالب القطري للاختيار.

التحديات المستقبلية: قال سموه: "نحن مقبلون على تحديات كبيرة واستحقاقات قمنا بإقرارها، قمنا بإقرار الدستور وطبقت غالبية أهدافه ولكن بعض البنود تأجل تطبيقه لأسباب متعلقة بتحديات التنمية في البلد والأوضاع العاصفة في المنطقة"، ثم أعلن سموه المفاجأة السارة: "إني أعلن من على منصة هذا المجلس أننا قررنا أن تجري انتخابات مجلس الشورى في النصف الثاني من عام 2013" وأضاف: "إن هذه الخطوات ضرورية لبناء دولة قطر الحديثة والإنسان القطري القادر على خوض تحديات العصر"، وقال: "إن المراحل التي تبدو متواضعة هي جزء من خطة شاملة للمدى البعيد تتضمن أهدافاً أقل تواضعاً وأكثر طموحاً وسوف يرى شعبنا كيف ستصبح قطر بعد تنفيذ ما خططناه لعام 2030".

الدور الخارجي: تحدت قطر محدودية السكان والمكان وأصبحت رقماً مهماً في المعادلات الدولية ولاعباً سياسياً في حفظ السلام والاستقرار وصار لها صوت مسموع، يفد إليها الجميع ويخطبون ودها، ولم يأت هذا من فراغ بل عبر جهود جبارة للقيادة السياسية في بناء علاقات جيدة مع مختلف دول العالم. اعتمدت قطر على العقلانية والواقعية كركيزتين في علاقاتها الخارجية بديلاً عن العنتريات والمناطحة والشعارات الجوفاء، وتبنت صيغة نموذجية متميزة لعلاقة دولة صغيرة بالدول الكبرى خصوصاً أميركا.

هذا من جهة، مع المحافظة على علاقة مقبولة بمختلف الأطراف الإقليمية المناوئة لأميركا من جهة أخرى ووظفت هذه العلاقات للقيام بدور الوسيط المقبول دولياً في تقريب وجهات النظر، وإطفاء بؤر النزاع، ونزع فتيل التوتر، ودعم السلام والاستقرار، كما استثمرت هذه العلاقة لخدمة قضايا أمتها العربية والإسلامية، وقطر اليوم إذ تدعم حركات الربيع العربي فإنها لا مطمع لها بل انطلاقاً من واجبها الديني والقومي في نجدة الشعوب المضطهدة من أنظمتها.

وقد قال سموه: "إن سياسة قطر الخارجية هي من عناصر قوتها السياسية والاقتصادية وتقوم على مبادئ التعايش السلمي والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وتنطلق من واقع انتماء قطر الخليجي والعربي للمشاركة الفعالة في المجتمع الدولي، وتدعم قطر مسيرة التعاون وهي ترنو إلى الارتقاء بها إلى تحقيق التكامل الخليجي.

وفيما يتعلق بفلسطين فقد اتخذت قطر موقفاً مبدئياً دائماً في اعتبار الحل العادل والشامل وحده الكفيل بضمان الأمن والاستقرار، وقطر تقف دائماً وبقدر ما تسمح لها ضروفها إلى جانب كل شعب عربي إذا كانت تطلعاته صائبة وملحة ولا تقبل الصمت على ما يتعرض له، وقطر تؤكد أن الضامن الوحيد للاستقرار هو في تبني إصلاحات متواصلة لخدمة تطلعات الشعوب العربية.

وختم سموه خطابه بإرسال التهاني للشعبين المصري والتونسي على ولوجهما مسار التحول الديمقراطي كما شكر "حلف الناتو" على أمرين: تقديم العون المباشر في منع مجزرة بحق المدنيين وعلى إنهائه مهامه في الفترة المحددة.

* كاتب قطري