كيف يجب أن نفهم تركيا المقبلة علينا؟!

نشر في 02-06-2011
آخر تحديث 02-06-2011 | 00:01
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري قبل سنة ونيف كنت في إسطنبول، على مقربة من أحد مساجدها الأثرية الجميلة، وانطلق الأذان من مئذنته– وكان تسجيلاً– بلسان عربي مبين، ولم أتمالك الدمع في عيني وأنا أستمع إليه، واسترجعت ما أصبح بمنزلة دعوة مشتركة بين العرب والترك من ضرورة الاعتناء بتدريس اللغتين التركية والعربية ودعم حركة الترجمة بينهما.

يمثل الحكم الإسلامي المستنير والمرن في تركيا فرصة تاريخية نادرة للعرب والأتراك، على السواء، لبدء علاقة جديدة، والتخلص من كثير من المغالطات التاريخية التي سادت بين الجانبين في العصر الحديث، فقد ساد الاعتقاد بأن السلاطين العثمانيين الطغاة والمتخلفين انهزموا أمام القوى الغربية بسبب 'خيانة' العرب لا بسبب طغيانهم وتخلفهم!

هذه مسألة ينبغي معالجتها بصراحة وتسليط الضوء عليها وإظهار زيفها، لأن الأتراك أنفسهم نفروا من تاريخ السلطنة، أشد من نفور العرب!

ذلك أن إزالة حساسيات الماضي من شأنه أن يمهد الطريق للتعاون المأمول بين العرب وتركيا الجديدة المقبلة عليهم، سواء بالنسبة إلى موقفها من المسألة الفلسطينية أو غيرها من المسائل التي تهم العرب.

وقد حاولت مدارس 'الإسلام السياسي' فيما بعد إعادة الاعتبار لطغيان السلاطين العثمانيين باعتبارهم 'قادة إسلاميين'، واعتبرت هذه المدارس تركيا في أيامنا، بعد موقفها من إسرائيل، بأنها 'دولة الخلافة الإسلامية' القادمة للتحالف مع العرب ضد إسرائيل!!

ولكن من ناحية التاريخ الحقيقي، فقد كانت الثورات العربية، كالسعودية التوحيدية، والسنوسية، والعربية الهاشمية تعبر، جميعها، عن رفض العرب للهيمنة السلطانية العثمانية.

وكان احتفال الجميع، عرباً وأتراكاً، بإعلان الدستور العثماني عام 1908 تعبيراً عن تطلعهم إلى عهد من الحرية، ولكن السلطان عبدالحميد انقلب على ذلك الدستور، وعاد إلى حكم بلاد المسلمين حكماً استبدادياً مطلقاً كسائر السلاطين العثمانيين، بينما تكثر الروايات والأحاديث غير الموثوقة هذه الأيام عن 'رفض' السلطان المستبد إقامة وطن لليهود في فلسطين... دون وثائق مؤكدة!

أما العلمانية التي تم تطبيقها في تركيا فقد مالت إلى أقصى الجانب الآخر من المعادلة، ولم تكن ثمة مراعاة للإرث التركي الإسلامي لا لتقاليد الاستبداد العثماني فحسب. فاتخذوا من الحرف اللاتيني وسيلة لكتابة لغتهم بدل الحرف العربي، وحصلت قطيعة مؤلمة بين التركي المعاصر وما كتبه أبوه وجده بحروف عربية، حتى العبارات الإسلامية الشائعة– كالشهادة والبسملة- لم يعد التركي المعاصر قادراً على قراءتها إلا إذا كُتبت له بحروف لاتينية! وأمر أتاتورك أن يكون الأذان في المساجد بالتركية ومنع العربية من أي استخدام، وقد بقي الابتعاد التركي عن الإسلام قائماً إلى سنوات قليلة عندما كانت النساء المحجبات يطردن من الجامعات، بل من البرلمان. والأدهى من ذلك أن تركيا ابتعدت عن محيطها الشرقي كله، وغدت عضواً في حلف الأطلسي وصديقة لإسرائيل، وقد لخص عدنان مندريس– الذي أعدمه حماة العلمانية– هذا التحوّل التركي بقوله: 'كنا أول دولة في الشرق، فأصبحنا آخر دولة في الغرب'!

وقد شهد العالم، متغيرات عدة، منها تفكيك 'الاتحاد السوفياتي' عام 1989، وانتهاء 'الحرب الباردة' بين العملاقين، إذ اختفى 'العملاق' السوفياتي، ويتبعه 'عمالقة آخرون' في الاضمحلال طبقاً لقانون قيام وسقوط القوى الكبرى.

وقبل سنة ونيف كنت في إسطنبول، على مقربة من أحد مساجدها الأثرية الجميلة، وانطلق الأذان من مئذنته– وكان تسجيلاً– بلسان عربي مبين، ولم أتمالك الدمع في عيني وأنا أستمع إليه، واسترجعت ما أصبح بمنزلة دعوة مشتركة بين العرب والترك من ضرورة الاعتناء بتدريس اللغتين التركية والعربية ودعم حركة الترجمة بينهما.

ومع تصاعد الظاهرة الإسلامية في المنطقة، وبروز أحزاب 'إسلامية' تركية وصل آخرها إلى السلطة، وهو حزب 'العدالة والتنمية'، الذي سيمر بمحك الانتخابات من جديد يوم 12 يونيو الجاري، وسيتضح إن كان التحول التركي الجديد راسخ الجذور، أم أنه'مزاج' انتخابي؟! وترجح الاستطلاعات الجارية فوز حزب 'العدالة والتنمية' من جديد.

ثمة عوامل موضوعية تمكّن تركيا من القيام بدور أكبر، وهو وقوعها جسراً بين الشرق (آسيا) والغرب (أوروبا)، ليس في المؤثرات الحضارية والثقافية فحسب، ولكن في الجوانب الاقتصادية التي تؤهلها كجسر للطاقة بين آسيا المنتجة للنفط والغاز، وأوروبا المتعطشة للطاقة بحكم تقدمها ومتطلبات شعوبها. ثم إن الاقتصاد التركي آخذ، في حد ذاته، في الازدهار والصعود، وتركيا اليوم أكبر مصدّر للإسمنت في العالم بالإضافة إلى صناعات أخرى، والأسواق تنفتح أمام المنتوجات التركية لقدرتها على المنافسة، وتنفرد الأسواق العربية بالميل إلى تركيا لأسباب سياسية بالإضافة إلى ميولها الاستهلاكية. هذا كي لا ننسى البلدان الناطقة بالتركية التي صارت– بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي– تتواصل مع تركيا ثقافياً وتجارياً.

إن هذا التحول التركي الذي عبر عنه أحمد أوغلو، وزير الخارجية التركي، في كتابه 'العمق التركي' هو لحسابات تركية محضة، وعلينا فهم ذلك ورصده وتقييمه، وإن 'الانتقاد' التركي لإسرائيل، ليس لأنها على وشك أن تتحول إلى 'دولة خلافة' كما تصورت وتوهمت الحركات الدينية في العالم العربي، إنما هو لحسابات تركية خالصة تأخذ مصالح تركيا قبل كل شيء، وهو بمنزلة 'ورقة ضغط' على الغرب لتستفيد منها المصالح التركية، خاصة فيما يتعلق بقبولها في نطاق 'الوحدة الأوروبية'، وقد اتضح أن العلاقة مع إسرائيل ليست علاقة عداء، كما أن الاقتراب من إيران لا يمكن أن يكون دائماً.

والمأمول أن تراعي تركيا مكانة مصر في العالم العربي، فالعرب في نهاية المطاف لن يقبلوا بأي دور آخر غير الدور المصري في القيادة العربية.

وفيما يتعلق بمستقبل 'النموذج التركي' الذي كثر الحديث عنه هذه الأيام مع التطورات العربية الجارية يتمثل بكيفية تلاؤمهم– كإسلاميين– مع الأتاتوركية العلمانية ومع الديمقراطية الليبرالية كافة والمؤثرات الغربية التي أخذ بها الأتراك في حياتهم الاجتماعية منذ إقامة 'الجمهورية'، ولا تختص المشكلة بتركيا بل بالعالم الإسلامي كله، وعمرها أكثر من مئتي سنة! وقد حان وقت هذه المواجهة أو الموافقة في العالم العربي، فبعد التغيير في كل من مصر وتونس، وهما البلدان العربيان المؤهلان أكثر من غيرهما لمثل ذلك فإن هذه المسألة لابد من مواجهتها وحسمها، وبفكر فقهي اجتهادي، قبل كل شيء.

* مفكر من البحرين.

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top