«شعر الجاز» ظاهرة برزت في النصف الأول من القرن العشرين في الثقافة الأميركية، على وجه الخصوص، مناهضة للسياق الشعري والثقافي السائد آنذاك. فهي صوت متمرد، لم تولد بصورة عفوية، بل ولدت بدراية دقيقة، حددها الشاعر كينيث رَكسروث بقوله: «مهم جداً أن يُنتزع الشعر من بين يدي أساتذة الجامعة، ويُخرج به إلى الحياة».

Ad

شعر يُقرأ على الجمهور بمصاحبة آلة الغيتار، التي تعزف اللون الموسيقي المُسمى Blue، وإذا كان لهذا الضرب من النشاط الموسيقي الشعري جذر يُذكر في التاريخ الحديث فيعود إلى محاولات الشاعر الفرنسي تشارلس غروس (1842 - 1888)، الذي ينتسب لجيل الشاعر «مالارميه». كان يلقي قصائده إلى الجمهور بمصاحبة فرقة موسيقية. وقد حفظت باريس هذا التقليد من القرن التاسع عشر حتى اليوم. ولأن جوهر هذا النشاط، الذي ينتسب لموسيقى الجاز، على حقيقته أميركي، وإفريقي - أميركي بصورة أدق، فإن المبادرات الأولى للجمع بين الجاز والشعر تمت على يد الشاعر المعروف لانغستون هيوز (1902 - 1967) الذي كان يُنشد الشعر بمصاحبة آلة البيانو، وماكسويل بودنهايم (1892 - 1954) في العشرينيات، وكينيث رَكسروث (1905 - 1982) الذي بدأ مصاحبة فرقة الجاز فعلاً، والذي أسس حركة نهضة سان فرانسيسكو الشعرية، وشارك بصورة فعالة في حركة الـ «بِيت».

إحدى قصائد لانغستون هيوز الجازية بعنوان «جازيونا»:

«آه، أيتها الشجرة الفضية،/ يا أنهار الروح المضيئة./ في كاباريه هارلم...»

الشعراء، وليس الموسيقيين، هم من بدأ حركة شعر الجاز. بدأت الحركة في سان فرانسيسكو، المدينة التي تُدعى «باريس الجيل الأكثر شباباً». كانت المدينة مركزاً يجمع عدداً كبيراً من الشعراء المعاصرين، من أمثال كينيث رَكسروث، ألين غنسبيرغ، كينيث باتشن، لورنس فيرلينغيتي وجاك كورياك. وكانت المدينة أيضاً مركزاً لعازفي موسيقى الجاز المحدثين. خلطة بالغة الحيوية  باتجاه التجريب والطليعية.

إلى جانب الدافع الطبيعي لدى الشعراء الشبان لتوسيع رقعة جمهورهم، كان هناك من يجد في هذه الإضافة الموسيقية تعزيزاً جديداً للشعر الذي كان يُقرأ إلى الجمهور منفرداً. وإلى جانبهم من يرى أن الشعر، منذ مطلعه، لم يتخلف عن صحبة الموسيقى. فيرلنغيتي كان الشاعر الذي وضع أول قصيدة في الشعر الإنكليزي على وجه الخصوص لتعزف في صحبة موسيقى الجاز. القصيدة تُدعى «سيرة ذاتية»:

«أعيش حياة هادئة في حي مايك كل يوم...»

شعر يطمع أن يتحدث، بلغة الحياة اليومية، مع أكبر عدد من الجمهور. وعلاقة هذا الشعر بموسيقى الجاز المصاحبة تعتمد أولوية الشعر، فعازفو الجاز يلاحقون تأويل الشاعر لنصه، على حد قول الشاعر فيرغاسون: «الموسيقى تؤلَّف على هوى قراءة الشاعر... ويُخطط لها لتعزز المادة العاطفية في النص الشعري». المهم ألا يكون العزف الموسيقي خلفية للقراءة الشعرية. فصوت الشعر يجب أن يتزاوج مع الصوت الموسيقي، وكأن حنجرة القارئ آلة موسيقية أساسية مُضافة. هذه الآلة الشعرية المصوتة، إن صح التعبير، تتناوب مع موسيقى الفرقة، شأنها شأن الساكسفون، أو البيانو. «قراءة الشعر - يقول ريكسروث - على خلفية موسيقية لا يمت لفن شعر الجاز بصلة، وهو في رأيي إجراء سخيف».

الشاعر الماهر في قراءته مع العزف الذي تؤديه فرقة الجاز يعتمد على مقدار تأرجحه وتمايله مع الموسيقيين، تماماً كما يعمل مغني الجاز الناجح. الشائع أنك تجد الكثير من النصوص الشعرية «الجازية» ليست بمستوى الموسيقى ذاتها. النص الشعري الجازي يجب أن يتمتع بصدق عاطفي خالص. النص الشعري يمنح لموسيقى الجاز غنى لفظياً، كما أنها تمنح لنصه اللغوي غنى لحنياً وإيقاعياً. وعادة ما ينوه ركسروث، عبر مقالاته العديدة عن هذا التيار، بأن موسيقى الجاز، على عكس ما هو شائع، ليست عزفاً ارتجالياً عشوائياً، إذ لابد من وجود ذخيرة في رأس العازف من أنغام وتنويعات مخطط لها، في حركة السرعة، وديناميكية كامنة في الارتجال. إن الأشكال الأساسية لموسيقى الجاز المعروفة بالغة الصرامة، مثل صرامة «شكل السوناتا» في الموسيقى الكلاسيكية.