إذا ما أردنا أن نفهم سبب خروج الغرب من عصور الظلام إلى عصر التنوير ومن ثم الحداثة وما بعد الحداثة، فعلينا أن نفهم ثورات فلسفة العلوم (الابستمولوجيا) التي شهدتها أوروبا منذ القرن السابع عشر حتى يومنا هذا، بينما نمنا نحن في كهوف القرن الثالث عشر ولم نستيقظ بعد.

Ad

إن السر وراء تطورهم وتخلفنا هو في إحداث الثورات الفكرية تلو الثورات الفكرية، التي بدأت بتحولهم من العصر الأيديولوجي إلى العصر الابستمولوجي (أي المعرفي)، بينما لا نزال نحن سجناء تلك المرحلة الايديولوجية... فالقطيعة الابستمولوجية (أي الانفصال أو التحول المعرفي عن المنطق القديم)، مرت عبر مخاضات تاريخية عسيرة دفعت الشعوب الأوروبية ثمنها، فكانت مفتاح دخولهم إلى عالم الحداثة.

لقد أحدثت الثورات الفكرية في أوروبا ثلاث قطيعات ابستمولوجية كبرى يشرحها المفكر هاشم صالح بشكل شيق في كتابه «مخاضات الحداثة التنويرية»، وسأستند في هذا المقال بإيجاز شديد وتصرف إلى بعض النقاط التي وردت فيه.

لقد دشنت القطيعة الابستمولوجية الكبرى الأولى في أواخر القرن السادس عشر وبداية السابع عشر ولادة العلم الحديث، فقد هز غاليليو وديكارت عرش الثوابت القديمة للمنطق الأرسطي الذي سيطر على العصور الوسطى حتى نهاية عصر النهضة... لينتقل العلم في هذه المرحلة من المنطق الحسي إلى منطق القياس الحسابي، وليشتغل ديكارت على فلسفته الجديدة فترة طويلة تأخر فيها إصدار كتابه «مقال في المنهج»، لأنه خاف أن يكون مصيره كمصير غاليليو الذي أدين من قبل الفاتيكان عام 1633، في وقت كان الأصوليون المسيحيون يسلطون سيوفهم حول رقاب الناس، ولكن فلسفته الجديدة خرجت إلى الحياة بالرغم من تحريم الفاتيكان لها، لتؤسس منهجية جديدة للمعرفة التي تعتمد على الشك الذي يوصل إلى اليقين، فالإنسان في نظره عندما يكون طفلاً أو تلميذاً يكون «واقعاً تحت تأثير محيطه»، وبالتالي هو «يتلقى القناعات والأفكار بشكل سلبي لأنه منفعل لا فاعل فيعتقد بصحتها المطلقة»... لذا فمن واجبه حين يبلغ النضج أن يعمل على نقد ذاته من أجل الوصول إلى الحقيقة.

لقد كان ديكارت مؤسس العقلانية الغربية حسب صالح «المنظر الأكبر للقطيعة الابستمولوجية الأولى، فبعدها أغلقت مرحلة العصور القديمة والعصور الوسطى كلها وفتحت أبواب العصور الحديثة».

أما القطيعة الابستمولوجية الكبرى الثانية فحدثت في القرن الثامن عشر، وهي بمنزلة بلوغ سن الرشد والنضج، لعقلانية ديكارت بعد ظهور كتاب «نقد العقل الخالص» لإيمانويل كانط الذي أحدث «القطيعة الكاملة» مع منطق أرسطو الميتافيزيقي.

فقد طور نيوتن في هذه المرحلة علم الفيزياء الذي ابتدأه غاليليو، ليمهد الطريق لفلسفة كانط الذي نقد العقل التجريدي الذي يتجاوز «ميدان التجربة المحسوسة»، ولينزل الفلسفة من علياء الماورائيات إلى أرض الواقع وقوانينه وظواهره، فلأول مرة في الغرب، كما يعبر هاشم صالح، «يتجرأ فيلسوف ما على تحرير العقل البشري من المسلمات المسبقة للميتافيزيقا... فلن تعود الفلسفة أبداً بعد كانط مثلما كانت عليه قبله».

جاءت القطيعة الابستمولوجية الثالثة في مطلع القرن العشرين باكتشاف أينشتاين للنظرية النسبية التي غيرت النظرة إلى مفاهيم المادة والزمان والمكان، فزعزع فيزياء نيوتن... لتمهد النظرية النسبية الطريق للفيلسوف غاستون باشلار (أول من استخدم مصطلح القطيعة الابستمولوجية) الذي نقض منهجية ديكارت في البحث، إذ لا يمكن أن يكون هناك منهج واحد صالح لكل زمان ومكان، «فالمنهج ابن العصر والظروف والحاجات والإمكانات، وعندما تتغير هذه الأشياء يتغير المنهج لا محالة»... لذا تتميز المجتمعات الحداثوية باستمرارية حركتها وتطورها، لأنها لا تغلق المجتمع على النهائيات الحتمية والمطلقة، إنما تفتحه على المعرفة النسبية عبر أدوات النقد والمراجعة والتصحيح المستمر.

أما نحن فلن نستيقظ ولن تكون لثوراتنا معنى من دون أن نثور ضد منطقنا القديم الذي لا يزال عصياً على تجاوز المنطق الأرسطي للقرون الوسطى، الذي حطم الغرب أصنامه قبل أكثر من 400 سنة!