لعل الأزمة التي ابتدأت في أغسطس الماضي بما اشتهر بفضيحة الإيداعات المليونية، أو كما أفضّل تسميتها "نواب غيت" تمثل مؤشراً على طريقة وأسلوب تعاملنا مع الأزمات وكيفية حلها أو الخروج منها بنتائج مفيدة.
عاداتنا وتقاليدنا السياسية تأبى إلا أن تجعل من مشاكلنا مفتوحة الجرح، يدور حولها الدائرون، يصرخون بأعلى صوت "امسك حرامي"، وبعد أيام أو ليالٍ تهدأ الوتيرة ويتم نسيان القضية لنكتشف قضية جديدة ربما مثلها أو أصغر منها، لنمارس نفس الطقوس مجدداً.من الواضح أن فضيحة "نواب غيت" ليست هي الفضيحة الأكبر، ولا ينبغي لها، فالفساد ضاربة أطنابه في عمق الثقافة السياسية، حيث لا يعتبر البعض أن ما جرى هو فساد أصلاً. ولو أن أياً من مجموعة "نواب غيت" كان في حسبانه أن تلك الأموال التي أودعها تمثل جريمة أو حتى شبهة جريمة لما أودعها من الأساس. ولهذا السبب يحدث الارتباك في ردود الفعل المضحكة المبكية أحياناً. بل إن أحد النواب في معرض دفاعه عن ورود اسمه ضمن مَن أحالتهم البنوك إلى النيابة بدلاً من أن يصمت أو ينتظر نتائج التحقيق أخذ يوجه الاتهامات إلى نواب آخرين لم ترد أسماؤهم، ويؤكد أن الفساد والقبض أكبر من شوية ملايين، بمعنى آخر "اشمعنى إحنا يعني؟".الموالون للحكومة ركزوا على قضايا الاقتصاد الوطني وتأثر سمعة البلاد، والبعض الآخر لاحت له بارقة أمل لخلط الأوراق، فذهب بعيداً لتأصيل نظرية مؤامرة تم تدبيرها من أطراف شريرة تستهدف الإضرار بأمن البلاد واستقرارها، مركزين على "لماذا الآن ومَن وراء إثارة الموضوع؟". أما حكومتنا الرشيدة وبنكها المركزي فهما في عالم آخر، فهما لا يعلمان شيئاً عن الموضوع، ولا علاقة لهما به، حيث إنهما مشغولان بخطة التنمية غير المأسوف على شبابها، وأشياء أخرى يصعب تعدادها.مازلت أظن أن النتائج القانونية في موضوع "نواب غيت" لن تؤدي إلى شيء يسر الخاطر، "فالشق عود" ومكافحة الفساد تواجه مقاومة من ثقافة سائدة عشش فيها الفساد ونما وترعرع خلال أكثر من نصف قرن. وأصبحت العطايا والشرهات والرشى أمراً اعتيادياً، وهنا تأتي أهمية "نواب غيت" حيث إنها تستنكر فعلاً كانت الناس تتحدث عنه من ضمن السلوكيات السياسية العادية، وربما المقبولة عند البعض.للمرة المليونية، من وحي الإيداعات المليونية، نكرر أن هناك ثقافة محصنة ترى في المال العام لقمة سائغة وجائزاً أكلها وحلالاً بلعها، وأن أي قيود على استخدام المال في السياسة مرفوضة، وإن تم وضع تلك القيود فلابد من ملئها بالثغرات، حتى يتم الإفلات والتحكم في المجتمع. حقيقة الأمر هي أن المال السياسي عبر ما يزيد على نصف قرن كان هو، ومازال، الأداة الأهم في تمرير ما يراد تمريره، وهو أمر يقع في صلب بنية النظام السياسي. كما أنها مسألة تتجاوز بمراحل حفنة من نواب تضخمت أموالهم فجأة، ولذا فإن التركيز على الإصلاح الشامل مستفيدين من تداعيات "نواب غيت" أهم بكثير من البقاء في تلك الحفرة المليئة بالملايين المسمومة.وليس هناك بديل إلا المضي في طريق الإصلاح الشامل وعدم الاكتفاء بملاحقة "نواب غيت"، إلا أنني أعترف بتشاؤمي من إمكانية إنجاز تلك المهمة العسيرة، وعسى ألا ينتهي الأمر بنا كما انتهى الأمر بقاضٍ نزيه فشل في مكافحة الفساد السياسي فاستقال من منصبه، ولذلك الأمر حديث آخر في مقال آخر.
أخر كلام
عندما نغرق في شبر ماء
01-10-2011