الخروج من نفق الأزمة المصرية

نشر في 27-11-2011 | 00:01
آخر تحديث 27-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 ياسر عبد العزيز لم تعط إدارة المجلس العسكري لمصر على مدى الأشهر التسعة الأخيرة أي انطباع بأنه استفاد بالقدر المناسب من دروس الإدارة الفاشلة لنظام مبارك، بل إن إدارة المجلس للأزمة السياسية الحادة الأخيرة بينت أنه ربما يعمد إلى تكرار أخطاء النظام السابق ذاتها.

بدأ مسلسل الأخطاء القاتلة، في الأسبوعين الأخيرين، بالإصرار على تفعيل "وثيقة المبادئ الدستورية" ببعض موادها المثيرة للجدل، وهي وثيقة نُظر إليها على أنها تستهدف إعطاء الجيش وضعاً يجعله "فوق الدولة" من جهة، وتحد من دور الأغلبية البرلمانية المنتظرة في تشكيل لجنة إعداد الدستور من جهة أخرى.

وفي سيناريو تكرر كثيراً في عهد مبارك، فجرت قوات الأمن الشرارة التي أشعلت التظاهرات الأخيرة، وما رافقها من أحداث عنف، قبل ثمانية أيام، حين أخلت ميدان التحرير من اعتصام مصابي الثورة باستخدام العنف المفرط، قبل أن تقتل عشرات المتظاهرين و"تقنص عيون" بعضهم.

من الإنصاف الإشارة إلى بعض النقاط الإيجابية التي ظهرت في أداء المجلس العسكري أخيراً؛ ومنها، بالطبع، البيان الذي تلاه المشير طنطاوي الثلاثاء الفائت، بما حواه من تعهد واضح بجدول زمني واقعي لنقل السلطة، يلتزم الجيش بمقتضاه بتسليم الحكم لرئيس مدني منتخب قبل نهاية يونيو المقبل. وإضافة إلى ذلك، فقد أصدر المجلس قانون "إفساد الحياة السياسية"، وهو القانون الذي يتيح إبعاد المسؤولين عن "إفساد الحياة السياسية" من المشهد السياسي لمدة خمس سنوات عبر أحكام قضائية. كما أن المجلس استجاب لمطالبات الثوار وقدم اعتذاراً رسمياً عن سقوط "الشهداء" جراء العنف المفرط الذي استخدمته قوات الأمن في فض التظاهرات، وأخيراً، فقد أعلن تمديد التصويت في الانتخابات البرلمانية، المقررة غداً، لمدة يوم إضافي، بما يقلل العقبات الإجرائية التي يمكن أن تنال من نزاهة الانتخابات.

لكن بيان المشير جاء متأخراً يومين، وبمحتوى أقل من التوقعات، التي ترتفع عادة كلما تأخر رد فعل السلطة على مطالب الثوار. كما أن قانون "إفساد الحياة السياسية" جاء متأخراً سبعة أشهر، وبشكل قد يؤدي إلى عكس المرجو منه، أو على الأقل تفريغه من مضمونه، أو إرباك الانتخابات وإيجاد ثغرات للطعن في شرعيتها، إذا صدرت أحكام قضائية بعد تشكيل البرلمان توجب إسقاط عضوية عدد من أعضائه. أمّا الاعتذار فلم يكن مقروناً بتحويل المسؤولين عن الأحداث المفجعة، التي أزهقت أرواح عشرات الشهداء، للمحاكمات، فيما ضاعت أهمية زيادة مدة التصويت في أجواء مشحونة تندد بتكليف الدكتور كمال الجنزوري برئاسة حكومة "الإنقاذ الوطني" التي طالب بها الثوار، وتصر على مطالبة المجلس بالرحيل عن السلطة.

يعد الدكتور الجنزوري رجل دولة بامتياز؛ فهو أستاذ جامعي في الاقتصاد، تلقى تعليماً رفيعاً في الولايات المتحدة، وعمل وكيلاً لوزارة التخطيط، ومحافظاً، ووزيراً، ونائباً لرئيس الوزراء، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، في إحدى حكومات مبارك، قبل أن يُطاح على خلفية ما قيل إنه "محاولته الحصول على صلاحيات تتيح له تحقيق إصلاحات".

صورة الجنزوري لدى الرأي العام المصري مجملاً جيدة، وينظر إليه على أنه أحد القلائل المحترمين الذين عملوا إلى جانب مبارك، لكن "التحرير" يأخذ عليه كبر سنه (77 عاماً)، وأنه أحد أعوان الرئيس السابق، وعدم "إنتمائه للميدان"، ويطرح بدلاً منه لتولي مسؤولية "حكومة الإنقاذ الوطني" المرشحين الرئاسيين المحتملين الليبرالي الدكتور البرادعي، والإسلامي الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، فضلا عن الناشط السياسي اليساري وأستاذ القانون الدكتور حسام عيسى.

عند كتابة تلك السطور كانت ميادين "التحرير"، المنتشرة في أكثر من محافظة مصرية، ما زالت فائرة، والمطالبات برحيل المشير تتصاعد، و"الأغلبية الصامتة"، التي نظمت تظاهرة في ميدان العباسية، شرق العاصمة، وشارك فيها نحو عشرة آلاف متظاهر، غير قادرة على معادلة أثر المعارضة الثورية الصلبة، في ما ظلت أسقف المطالب الثورية ترتفع، ومعها درجة صمود الثوار واستعدادهم للتضحية.

منذ يوم 25 يناير، لم يكف ميدان التحرير عن طرح مطالبه؛ وهي مطالب لم تكن أحياناً محل توافق عام، لكن الثابت حتى هذه اللحظة أن كل مطلب تم التوافق عليه بوضوح تحقق بالفعل.

إنها ثورة حقيقية في مصر، وهي إن كانت تتعثر أحياناً، إلا أنها تظل قادرة على تشخيص الأوضاع بانتظام، وتصحيح المسار عند الضرورة، وطرح المطالب، وبلورة التوافق عليها، وتقديم الشهداء في سبيل تحقيقها، لذلك فلن تستطيع القوة الصلبة الوقوف أمامها، ولن تجدي معها أساليب التخدير البالية، ولا استهلاك الوقت، ولن يزيدها الاستهداف القاسي إلا توهجاً واشتعالاً.

فإذا عادت السلطة إلى استخدام العنف مجدداً، أو لم تستطع التعامل بحكمة مع المطالب المتبلورة في ميادين التظاهر راهناً، عبر تمكين الثورة من تحقيق أهدافها بالقرارات الحكيمة السريعة الناجعة، فقد تحتشد الحركة الوطنية كلها وراء مطلب وحيد برحيل المشير، وعندها لن تجدي "الأغلبية الصامتة" نفعاً، ولن تفلح قوة السلاح في كسر "إرادة الاستشهاد" المجربة لدى الثوار.

يظل الدكتور البرادعي لغزاً محيراً في الحياة السياسية المصرية، فرغم أن الرجل حقق أفضل أداء على الإطلاق بين مختلف السياسيين الذين انخرطوا في الحياة السياسية في أواخر عهد مبارك، سواء كانوا من مؤيديه أو معارضيه، فإنه يخفق في كسب شعبية تمكنه من تحقيق هدفه في الوصول إلى موقع الرئاسة.

لقد تعرض البرادعي لحملة تشكيك قاسية من نظام مبارك، صوّرته في صورة "العميل" للقوى الغربية، وبات قطاع ليس قليل من الجمهور يعتقد أن الرجل عاون الأميركيين في حربهم على العراق. ولم تكد تلك الصورة تتغير بعد مناهضته الشجاعة لنظام مبارك في وقت لم يكن كثيرون قادرين على الوقوف أمامه بشجاعة ووضوح، حتى بدأت الهجمات تتوالى عليه من أنصار التيار الإسلامي خصوصاً. واليوم يبدو أن المجلس العسكري يمكن أن يتفاهم مع أي من الطامحين إلى منصب الرئاسة باستثناء البرادعي لأسباب غير معلنة، وإن كان يمكن فهم أنها تتعلق بقدرة الرجل على التواصل من جهة، والمخاوف من عدم القدرة على التفاهم معه أو السيطرة على نزعاته من جهة ثانية، أو عدم الاطمئنان له بسبب اغترابه عن السياق المصري لعقود طويلة من جهة ثالثة.

سيكون هناك حل وسط للأزمة الحالية على أي حال، يمكن أن يحفظ للثورة قدرتها على الفعل واتخاذ القرار، وأن يحفظ للمجلس العسكري ماء الوجه في آن.

يتعلق هذا الحل بضرورة أن يتنازل الثوار عن فكرة رحيل المشير أو محاكمته في الوقت الراهن مع تطعيم حكومة الجنزوري بشخصيات مثل أبو الفتوح وعيسى وربما آخرين مثل زكريا عبدالعزيز المستشار المحسوب على الثورة من أول يوم، في مقابل التخلي عن تكليف البرادعي بتشكيل الحكومة في هذا التوقيت.

وعلى الجانب الآخر، يجب أن يحرص الجنزوري والمجلس العسكري على تضمين الحكومة الجديدة تلك الأسماء، إضافة إلى عدد من شباب الثورة والسياسيين الأكفاء، مع إعطائها صلاحيات مطلقة، تبدأ بمحاكمة المسؤولين عن إزهاق أرواح شهداء الثورة وتعويض ضحاياها، وتسرع في إقرار الأمن ووقف نزيف الاقتصاد وتضمن نزاهة الانتخابات.

* كاتب مصري

back to top