جيل جديد ... إصدارات قديمة
توقف إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ومن ثم عودتها مجدداً، في كلتا الحالين يستحق الأمر وقفة تأمل، وقفة تطرح السؤال ليس عن أسباب الغياب والحضور فحسب، وإنما هو سؤال بحجم "القراءة" ولغز المعرفة حين تداعب الوجدان. تعتريك الفرحة وأنت تقلب صفحات أحد هذه الإصدارات بين يديك، تداعب إصبعك الركن العلوي من الكتاب، وبحنو أكثر تتسارع الصفحات كحبات مسبحة مُرسلة.
هنا موضوع نقدي يستحق الوقوف، وهناك وقفة معرفية اجتماعية، وبين هذا وذاك موضوع علمي، أو اكتشاف طبي مُذهل، فالتنوع الذي يشمل هذه الإصدارات أحد أهم الأسباب التي جعلت لها رسوخا في ذهن القارئ العربي، ومن الصعب أن تتكرر التجربة ذاتها، في أي مكان آخر. وبرغم ما نقرأ الآن من مشاريع معرفية أخرى مثل مشروع كلمة التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ومشروع "القراءة للجميع"، وإصدارات المركز القومي للترجمة في مصر، كلها مشاريع مشجعة على القراءة ومستندة على نقل المعرفة الإنسانية إلى اللغة العربية. لم تهمل إصدارات المجلس الوطني للثقافة الترجمة مطلقا، بل هي قائمة على المزج بين جانبي الترجمة، والأبحاث العلمية المكتوبة في أساسها باللغة العربية، فمن يقلب صفحات عالم الفكر يجد بين طياتها دراسات وأبحاثا نقدية كتبت بالعربية، وتكاد تكون مراجع هامة للباحثين، وطلاب الدراسات العليا. والملاحظ أن كثيرا من القضايا النقدية والفلسفية التي شهدت تطورا وجدلا واسعا بين الأكاديميين كانت حاضرة بين صفحات هذه المجلة، ابتداء من قضية الحداثة، وتطوّر المدارس النقدية/ الفلسفية، فالأعداد القديمة من هذه المجلة، تحوي دراسات عن البنيوية حين كانت في أوج عزها وعنفوانها، أوئل الثمانينيات من القرن المنصرم، وما تلا ذلك من نظريات بشأن "النقد الجديد"، وتلك "المؤسسة على استجابة القارئ"، أو النقد الثقافي، بشموليته وفوضويته. في كل الأحوال يجد القارئ نفسه أمام تحرك معرفي تجاوز كثيرا ما كان يطرح في فترتي السبعينيات والثمانينيات. وكذلك فإن قراءة مواضيع البنيوية، أو قضايا تطور القصيدة العربية، وجدلية "التفعيلة" التي نجدها في "عالم الفكر" أو "عالم المعرفة" تُقرأ في إطارها التاريخي. وفي النهاية تبقى هذه الإصدارات مراجع لا غنى للقارئ العربي عنها، أو انها قد تقرأ في إطار "الحنين" والعودة إلى جدلية الجذور المعرفية. بالقدر ذاته الذي نفرح فيه بعودة هذه الإصدارات، نتساءل عن معضلة أخرى موازية لها، وهي معضلة القراء، فقد ثبت أن كثيرا من المؤسسات الثقافية تتجه نحو تنمية القراءة في الوطن العربي عبر مشروعاتها المتتالية، ولكن السؤال: أين القارئ؟ بالنظر إلى الكويت ليس عليك سوى أن تتجوّل في الأسواق المخصصة لأدوات التكنولوجيا، والهواتف النقالة في منطقتي "شرق" و"الفروانية"، أو "المنقف" حتى تلاحظ الازدحام الهائل الذي تعج به هذه الأسواق، وبالمقابل لن تجد في مكتبتي "العروبة" أو "قرطاس" مثلا سوى نفر قليل من الروّاد!. فما الذي يجعل الجيل الجديد ينفق بسخاء على أدوات التكنولوجيا، دون أن يتكلّف عناء شراء كتاب ببضعة دنانير؟ هل هي معضلة التعليم، أو التربية المنزلية، ما يتسبب في نماء هذه الظاهرة المتخلفة "اللهاث وراء الشكليات". عادت إصدارات المجلس الوطني فهنيئا لجيل أربعيني أو خمسيني، قارئ، ويبقى السؤال قائما بشأن توجهات الجيل الجديد، وعلاقته بالقراءة "الورقية تحديدا"؟