لقد صمدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في وجه الضغوط التي مارستها بلدان جنوب أوروبا: ولن يتم إصدار سندات اليورو، ويشكل هذا بالنسبة إلى الأسواق خيبة أمل كبيرة، ولكن لا توجد وسيلة أخرى قد تتمكن بها هذه البلدان من إعادة بناء نفسها غير الإصرار بكل صبر على انضباط الديون على مراحل ووضع نهاية لتراخي القيود المفروضة على الموازنات.

Ad

والواقع أن المستثمرين في بلدان أوروبا المتعثرة يحصلون على ما يكفيهم بالفعل، ذلك أن القرار الذي اتخذه زعماء منطقة اليورو في الحادي والعشرين من يوليو بالسماح لمرفق الاستقرار المالي الأوروبي بإعادة شراء الديون القديمةـ وهو القرار الذي لا يحده شيء سوى قدرة مرفق الاستقرار المالي الأوروبي- يُعَد بالفعل بمنزلة نوع ما من سندات اليورو. وسوف يستمر البنك المركزي الأوروبي عن طيب خاطر في تنفيذ سياسة الإنقاذ بمنح القروض لبلدان منطقة اليورو المتعثرة وشراء سنداتها الحكومية.

بيد أن بلدان جنوب أوروبا تسعى جاهدة إلى التحول بالكامل إلى سندات اليورو في محاولة للتخلص من علاوات سعر الفائدة نسبة إلى ألمانيا، والتي تطالبها بها الأسواق، وهو أمر مفهوم، إذا ما علمنا أن الأمل في تقارب سعر الفائدة كان سبباً حاسماً لدفع هذه البلدان إلى الانضمام إلى اليورو في المقام الأول، ولفترة أكثر قليلاً من عشرة أعوام، من عام 1997 إلى عام 2007، تحقق ذلك الأمل بالفعل.

فبالنسبة إلى إيطاليا، ساعد تقارب أسعار الفائدة في تقليص مدفوعات أقساط الديون في الأمد المتوسط بنسبة بلغت 6% من الناتج المحلي الإجمالي. وكان ذلك سيكفي لسداد الدين الوطني الإيطالي بالكامل في غضون خمسة عشر عاما. ولكن إيطاليا اختارت أن تبدد ميزة أسعار الفائدة. فاليوم تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في إيطاليا 120%، وهي نفس النسبة المرتفعة التي كانت عليها عدما انضمت إلى منطقة اليورو في منتصف التسعينيات.

والآن بعد أن بدأت الفوارق بين أسعار الفائدة بالازدياد من جديد، أصبحت الآلام غير محتملة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأصوات المنادية بإصدار سندات اليورو، وعندما تضمن دول أخرى السداد، فمن المرجو أن تعود أسعار الفائدة إلى الانخفاض من جديد.

ولكن من قد يقدم مثل هذه الضمانات؟ إن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا وألمانيا أعلى كثيراً من 80%، وهي نسبة ليست أدنى كثيراً من النسبة في إيطاليا، وأعلى كثيراً من النسبة في إسبانيا. وتجميع الديون لن يصحح هذا الوضع، بل يتعين على كل دولة أن تسدد ديونها بنفسها؛ ولا يوجد سبيل للالتفاف حول ذلك الأمر. ومن قبيل المصادفة أن الإثارة الحالية بشأن أسعار الفائدة مبالغ فيها بعض الشيء، ذلك أن أسعار الفائدة التي يتعين على بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا أن تدفعها اليوم لا تزيد على نصف ما كانت عليه في عام 1995، قبل تحديد أسعار التحويل داخل منطقة اليورو؛ وعلى نحو مماثل لا تزيد الفوارق في أسعار الفائدة اليوم في مقابل ألمانيا على ثلثي ما كانت عليه آنذاك، ولا يوجد ما يشير إلى أن الأسواق تعاني خللا وظيفيا وتبالغ في تقدير الفوارق بين الجدارة الائتمانية للبلدان المختلفة.

الواقع أن الفوارق ضرورية للإبقاء على تدفقات رؤوس الأموال داخل منطقة اليورو تحت السيطرة، فقبل العمل باليورو، كانت تدفقات رأس المال محدودة بسبب عدم اليقين بشأن أسعار الفائدة، ولقد أنقذ هذا أوروبا من اختلال بالغ الضخامة في التوازن الخارجي، والآن وفي غياب مخاطر أسعار الصرف، فإن الفوارق في أسعار الفائدة التي تستند إلى التقديرات الائتمانية للبلدان المدينة تشكل الوسيلة الدفاعية الوحيدة المتبقية ضد التحركات المفرطة لرؤوس الأموال، وما قد يترتب عليها من اختلال في التوازن الخارجي. وإذا حصل المستثمرون على حماية بلا حدود، وفي ظل غياب المخاطر المتمثلة بتحمل نصيبهم من الخسائر المحتملة، فإن رؤوس الأموال سوف تستمر في التدفق من دون عوائق من ركن من أركان منطقة اليورو إلى آخر، وهو ما من شأنه أن يطيل أمد هذا الاختلال في التوازن.

لقد تجاهلت إيطاليا لسنوات عديدة أسقف الديون المفروضة عليها بموجب معاهدة ماستريخت ومعاهدة الاستقرار والنمو، ولم تسارع الحكومة الإيطالية إلى تنفيذ برنامج التقشف إلا أخيراً عندما بدأت أسعار الفائدة بالارتفاع بعض الشيء، وبموافقة كل الأحزاب السياسية. وهنا تؤخذ الأسواق، وليس أسقف الدين، على محمل الجد؛ وإصدار سندات اليورو من شأنه أن يزيل هذه الوظيفة التأديبية.

وبدرجة محدودة، ينطبق نفس الشيء على عمليات الإنقاذ في الاتحاد الأوروبي وتدخلات البنك المركزي الأوروبي، وكان من الممكن تبرير هذه التدخلات أثناء فترة الركود 2008-2009، ولكنها الآن أصبحت تأتي بنتائج عكسية، لأنها تعمل على تقويض وظيفة السيطرة التي تمارسها الأسواق.

وبالاستعاضة عن الائتمان الخاص الذي يجري سحبه بالائتمان العام، فإن الخلل في التوازن الخارجي داخل منطقة اليورو يصبح مستديما، وحتى يومنا هذا، بعد مرور أربعة أعوام منذ اندلاع الأزمة، لا توجد دلائل تشير إلى أن الدول المفرطة الكلفة في جنوب أوروبا بدأت بخفض القيمة الحقيقية من خلال خفض الأجور والأسعار، ولكن هذا يشكل شرطاً مسبقاً للحد من الاختلال في التوازن الخارجي والاعتماد على القروض الأجنبية.

وتعمل عمليات الإنقاذ على إطالة أمد الأزمة لأنها تُعَد بمنزلة محاولة للإبقاء على أسعار الأصول عند مستوى أعلى من توازن السوق، الأمر الذي يخلق خطراً سلبياً من جانب واحد ولا تحده سوى الجيوب العميقة لصناديق الإغاثة، وهذا يذكرنا بالجهود العقيمة التي بذلتها البنوك المركزية، عندما كانت أنظمة أسعار الصرف الثابتة شائعة، لتثبيت استقرار الأسعار عند مستويات أعلى من توازن السوق، وكانت النتيجة، كما هي الحال اليوم، تفاقم الاضطرابات في الأسواق.

الآن حان الوقت كي تواجه أوروبا الواقع المرير وتبدأ بتنفيذ عمليات التكيف والتعديل الصعبة في إطار الاقتصاد الحقيقي، وهي العمليات الضرورية لإعادة التوازن على منطقة اليورو، ولا شك أن سندات اليورو كفيلة بتخدير الآلام التي تعانيها البلدان المتعثرة اليوم، ولكنها قد تؤدي في النهاية إلى جعل هذه الدول- ومنطقة اليورو بالكامل- أشد مرضاً من ذي قبل.

* هانز فيرنر سن | Hans-Werner Sinn ، أستاذ الاقتصاد والتمويل الحكومي بجامعة ميونيخ، ورئيس معهد إيفو للبحوث الاقتصادية (Ifo).

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».