مية مية !

نشر في 03-11-2011
آخر تحديث 03-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. ساجد العبدلي كنت متوقفا عند إشارة ضوئية، وكان بجانبي سيارة فيها شاب، والمذياع يصدح بأغنية شبابية سريعة على إيقاعات الآلات الموسيقية الحديثة الصاخبة، سرقت انتباهي كلماتها. كان المغني يقول: "الدنيا مية مية... أصحابي مية مية... جيراني مية مية... حبايبي مية مية... وأنا أهُهْ مية مية"!

أغنية، وبصرف النظر عن مستواها الفني، كانت كلماتها التي سمعت في تلك الثواني المعدودة في قمة الإيجابية، فكل شيء عند الأخ “مية مية”، فماذا ترانا نريد منه بعد؟!

لكن، ولنتجاوز حكاية الأغنية سريعا قبل أن تصبح قضية، سؤالي هنا: هل يمكن أن تصبح الدنيا من حولنا وبكل ما فيها من الأصحاب والأحباب والأشياء بالفعل "مية مية"؟ الإجابة البسيطة ودون مواربة هي: لا كبيرة، هذا لا ولن يحصل أبدا، فالحياة قد خلقها الله لتتقلب على الوجهين، جاعلا أيامها ولحظاتها وصروفها مرة في الأعلى ومرة في الأسفل، ومحال لها أن تستقر على وجه واحد أبدا، وهذا هو أساس الابتلاء ومحك الاختبار في هذه الحياة الدنيا التي هي هكذا منذ الأزل وستظل أبد الدهر.

الحياة لا تصبح أبدا "مية مية"، لكنها عيون الناس وعقولهم وأفئدتهم هي التي ترى ما تريد أن تراه منها في لحظات عيشها. لو أحضرنا الآن أسعد شخص نراه من حولنا وأجلسناه ووضعنا بيده ورقة وقلما وقلنا له اكتب لنا قائمة بالمتاعب والعراقيل والمشاكل التي تعترض حياتك، لوجدناه يكتب ويكتب، ولو بالمثل أحضرنا أتعس الناس من حولنا وطلبنا منه أن يتجاوز تعبه في تلك اللحظة وأن يكتب قائمة بالإيجابيات والنعم التي أنعم الله عليه بها، لعله سيواجه صعوبة في البداية، ولكنه سرعان ما سيكتب ويكتب. إذن لا يوجد سعيد على هذه الأرض لأن حياته بكل مفرداتها وكل ما فيها  "مية بالمية"، ولا تعيس لأن كل مفردات حياته من أولها حتى آخرها تنضح بالتعاسة، ولكن يوجد سعيد لأنه اختار النظر إلى تلك الجوانب الحسنة في حياته وتلك النعم والأفضال التي حباه الله بها، فصارت نفسه ترى حياته "مية مية"، ويوجد من هو على العكس.

ليس مرادي، يا سادتي، من هذا المقال أن أسخر من حجم أي مصيبة أو أي مصدر للتعاسة في حياة أي إنسان، فلا شك أن هناك ابتلاءات كبيرة وصعبة جدا في هذه الدنيا، ابتلاءات يصبح معها الوضع وكأنه بعيد كل البعد عن شواطئ السعادة، فتستحيل معه رؤية شعاع النور في آخر النفق، إلا أنني مع ذلك أؤمن، كما قال الأولون، بأن كل مصيبة تكون في أشدها وعلى أقسى ما تكون في بدايتها عندما تحل بالإنسان، ثم تصغر وتصغر، إما لأنها تصغر بالفعل وإما لأن النفس تتمكن من التآلف والتعامل معها بطريقة من الطرق، فتنساها أو على الأقل تتجاوزها، وإن لم تفعل فإنها تحتسب الأجر والمثوبة فيها.

تحضرني هنا قصة تلك المرأة المبتلاة بمرض كان يصرعها أمام الناس، فذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام طالبة منه أن يدعو الله أن يشفيها، فأجابها: إن أحببت أن تصبري ولك الجنة وإن أحببت دعوت الله أن يشفيك، فقالت: بل أصبر، واكتفت بأن طلبت منه عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله لها حين تصرع ألا تتكشف. هذه القصة تظهر لنا أنه حتى الابتلاءات والمصائب العظيمة تأتي ومعها منحتها الربانية العظيمة، إن نحن أنبنا وتبنا وصبرنا واحتسبنا الأجر فيها، وليس أعظم منحة ومكافأة مما عند الله، وما عند الله خير.

back to top