مختبرات الموازنة الأنجلوسكسونية

نشر في 07-06-2011
آخر تحديث 07-06-2011 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت كان التهديد الذي أطلقته وكالة التصنيف ستاندرد آند بورز أخيراً بخفض تصنيف الديون العامة للولايات المتحدة بمنزلة حدث مفاجئ وغير متوقع، فبعد أن كانت المخاوف بشأن الديون العامة محصورة في قِلة من البلدان الجانحة في وقت ما، أصبحت اليوم تكشر عن أنيابها في أضخم وأغنى الاقتصادات على مستوى العالم.

والواقع أن الرسالة الموجهة إلى كل الحكومات واضحة: فإذا كان من الممكن التشكيك في جودة السندات الأميركية، المعروفة تقليدياً بأنها أكثر الأصول المالية أمانا، فهذا يعني أن أي دولة في العالم ليست في مأمن من الهجوم، لذا فإن السؤال اليوم ليس ما إذا كان الوقت حان لخفض العجز، ولكن بأي سرعة وإلى أي مدى وبأي وسيلة.

في أوروبا، تصوَّر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل باعتبارها من أشد أنصار خفض العجز، ولكن على الرغم من عشقها لرفع صوتها عاليا، فإنها تعمل بقدر كبير من الحذر: فمن الواضح أن التكيف المالي الألماني اليوم يتسم في واقع الأمر بالتدرج الشديد، أما البلدان التي من المتوقع أن تكون معركة الميزانية هي الأشرس على الإطلاق فهي المملكة المتحدة والولايات المتحدة، إذ تجاوز العجز 10% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010.

وفي لندن، اتخذ رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وضعية الهجوم، فلدى توليه مهام منصبه أوكل مهمة توقع الميزانية للمكتب المستقل للمسؤولية عن الموازنة، وبالتالي خسر أي احتمال لممارسة أي حيلة، ثم أعلن خطة جريئة لخفض العجز المعدل دورياً بنسبة 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا، وبالتالي استهداف عجز يبلغ 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2013.

وكان كاميرون يراهن على أن هذا التعديل من شأنه أن يحفز النمو لا أن يعوقه، فمنذ أنارت أيرلندا والدنمارك الطريق قبل خمسة وعشرين عاما، ظلت الحكومات تحلم "بتقليص الموازنات توسعياً" بنجاح، ولكن بإلقاء نظرة فاحصة على هذا التناقض اللفظي، فسوف يتبين لنا أن هذه النجاحات الأشبه بالمعجزات تؤكد أن إزالة تأثيرات الركود المعتادة المترتبة على ضبط الأوضاع المالية، أو حتى عكس اتجاهها، يتطلب توافر واحد من ثلاثة شروط على الأقل: انخفاض مستويات الادخار التحوطي الأسري؛ أو هبوط أسعار الفائدة الطويلة الأجل؛ أو سياسة نقدية أكثر توسعاً تعمل على إضعاف سعر الصرف.

وفي غياب هذه الشروط، فإن تعديلات الموازنات تكاد تكون مكلفة في كل الأحوال من حيث النمو، ولقد تأكد هذا في دراسة حديثة دقيقة وتفصيلية أجراها صندوق النقد الدولي، عن حالات ضبط الأوضاع المالية في الماضي.

ولكن في المملكة المتحدة لن يتسنى الاعتماد على خفض المدخرات التحوطية (فالأسر غارقة في الديون، وهذا يعني أنها في احتياج إلى زيادة المدخرات وليس الإقلال منها)، فضلاً عن ذلك فإن أسعار الفائدة الطويلة الأجل منخفضة للغاية بالفعل. وهذا لا يترك لنا خيار سوى الاستعانة بالسياسة النقدية لدعم النشاط الاقتصادي، ولكن نظراً لارتفاع أسعار السلع الأساسية وضعف المكاسب الإنتاجية، فإن التضخم في المملكة المتحدة كان أعلى من المتوقع، ويتوقع بنك إنكلترا أن يبلغ مستوى التضخم نحو 3% في بداية عام 2012، وهذا يتجاوز توقعات البنك في العام الماضي بنحو نقطتين تقريبا.

والواقع أن آخر تقرير صادر عن بنك إنكلترا فيما يتصل بالتضخم يؤكد بوضوح أن الارتفاعات الحادة في أسعار الفائدة باتت مرجحة في مثل هذا السياق، لذا فقد أصبح من الصعب للغاية على حين فجأة أن تتمكن المملكة المتحدة من تعزيز النمو الاقتصادي، الذي ظل راكداً طيلة الربعين الأخيرين؛ أي أن كاميرون لم يفز بِرهانه حتى الآن على أقل تقدير. أما موقف الولايات المتحدة فكان مختلفاً تمام الاختلاف، ففي مواجهة مستويات بطالة تكاد تنافس الذروة التي بلغتها بعد الحرب العالمية الثانية، ذهبت إدارة باراك أوباما إلى تأخير عملية التعديل والتكيف في محاولة لتجنب خنق التعافي، حتى أنها أعطت الاقتصاد دَفعة أخرى في نهاية عام 2010، بهدف التعويض عن السياسات البالغة التقييد للولايات الأميركية الخمسين، والتي تتبنى أغلبها قواعد خاصة بالموازنات المنضبطة، وهذا يعني بدوره أنها تتبنى سياسات مؤيدة للغاية للدورة الاقتصادية. والواقع أن الاختيار الذي تبناه أوباما بمواصلة التحفيز في الأمد القريب كان مبرراً تماما، ولكنه أدى إلى إبراز المخاوف بشأن غياب أي قدر من التفكير الجاد في أسلوب وسرعة ضبط الأوضاع المالية في المستقبل، وحتى وقت قريب، كان الشعور بالاحتياج الملح الذي هيمن على تصرفات صناع القرار السياسي في أوروبا يكاد يكون غائباً في الولايات المتحدة، والواقع أن كل الأفكار التي طرحت كانت تفتقر إلى أي ثِقَل سياسي.

ولقد بدأت مرحلة جديدة بالاتفاق الأخير الذي أبرم في آخر لحظة بهدف تجنب توقف الحكومة الفيدرالية، وموافقة مجلس النواب على برنامج الموازنة المقترح من جانب نائب الكونغرس الجمهوري بول ريان. والآن تجري مناقشة الميزانية على قدم وساق، ولكن الهدف يظل بعيداً عن الطموح نسبيا، والأمر الأكثر أهمية من ذلك هو أن الخلافات حول وسائل تحقيقه هذا الهدف هائلة.

إن إدارة أوباما تدعو إلى تبني نهج متوازن، وبموجب هذا النهج يأتي ثلثا التعديل من خفض الإنفاق والثلث الثالث من زيادة الضرائب، بيد أن خطة ريان تقضي بخفض أكثر حدة في الموازنة، وخاصة خفض الإنفاق الاجتماعي الذي من شأنه أن يقضي على كل ما تبقى من دولة الرفاهة في الولايات المتحدة وأن يمول خفضاً في الضرائب، والواقع أن الفجوة بين المعسكرين بالغة الاتساع.

ونتيجة لهذا، تُشَن الآن حرب استنزاف بشأن ميزانية الولايات المتحدة، فكلا الجانبين يركز على حالة التمويل العام، ولكن كل معسكر يسعى إلى استخدام العجز كوسيلة لتعزيز أفضلياته الخاصة فيما يتصل بمستقبل العائدات والإنفاق، ولإرغام الجانب الآخر على التراجع. ومن المؤسف، كما أوضح خبيرا الاقتصاد ألبرتو أليسينا وألان درازين في بحث مشهور نشر قبل عقدين من الزمان، أن هذا على وجه التحديد هو نمط التكوين السياسي الذي يؤدي إلى تأخير إجراء التعديلات في الموازنة.

الواقع أن المعركة سياسية في جوهرها، وهي تتسم أيضاً بعدم التكافؤ، وذلك لأن هؤلاء الطامحين إلى تقليص سلطة الدولة على استعداد بحكم التعريف للمجازفة بإفلاس الدولة مقارنة بهؤلاء الذين يسعون إلى الحفاظ على سلطانها، والواقع أن إدارة أوباما قدمت تنازلات كبيرة بالفعل فيما يتصل بتخفيض الضرائب وخفض الإنفاق. ومرة أخرى، تعمل المملكة المتحدة والولايات المتحدة كمختبر لبقية العالم، وسوف يؤثر مصير تجربة المملكة المتحدة بشكل حاسم في عزيمة بلدان أخرى فيما يتصل بالشروع في تعديلات واسعة النطاق؛ كما ستؤثر نتيجة المعركة الدائرة في الولايات المتحدة في الخيارات فيما يتصل بالأولوية النسبية لخفض الإنفاق وزيادة الضرائب، ومن المؤكد أن النتائج التي سوف تفسر عنها هاتان التجربتان سوف تخلف عواقب كبرى على توجهات صانعي القرار السياسي في أماكن أخرى من العالم.

* جان بيساني فيري | Jean Pisani-Ferry ، أستاذ بكلية هيرتي للحوكمة (برلين) ومعهد العلوم السياسية (باريس) وهو يشغل حالياً منصب المفوض العام لإدارة الاستراتيجية الفرنسية، وهي مؤسسة استشارية سياسية عامة.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top