عندما يغيب التسامح!!
أول ما تبادر إلى الذهن، عندما أُدخل الرئيس المصري (السابق) حسني مبارك إلى قفص الاتهام وهو ممدد على فراش الموت بعينين شبه مُغْمضتين ولون شاحب، هو تلك الصورة عندما حَرِصَ ضباط انقلاب يوليو 1952 على إعداد وداع رسمي للملك فاروق قبل ترحيله عن مصر عُزف فيه النشيد الوطني وبقي المودعون ينتظرون على رصيف ميناء الإسكندرية إلى أن غاب يخت «المحروسة» الذي أخذه إلى إيطاليا في غبش البحر ولم تعد تدركه الأبصار التي بقيت تلاحقه حتى آخر لحظة.لقد كان بإمكان الانقلابيين أن يلقوا القبض على فاروق بألف تهمة وتهمة فلديه من التجاوزات، وأقلها الذخائر المزورة والفاسدة التي أُرسلت إلى الجيش المصري الذي كان يقاتل في الفالوجة في فلسطين، لكنهم لم يفعلوا ذلك وأصروا على أن يحافظوا على كرامة ملك مصر وألا يسيئوا إلى هيبته، لأنها بالنسبة إليهم هيبة الدولة المصرية وهيبة التاريخ المصري منذ عهد «مينا» حتى آخر الزمان مهما طال الزمان.
لا يوجد أكثر جَرْحاً للعواطف من رؤية حسني مبارك ابن الثالثة والثمانين عاماً وهو يدخل قفص الاتهام ممدداً على فراش الموت ويقلب بصره الكليل في فراغ المحكمة المرعب، ولعل الذين تابعوا هذا المشهد المحزن، أو بعضهم على الأقل، توصلوا إلى قناعة بأن هذه المحاكمة لم تُنصب من أجل هذا الرجل الذي هو مجرد حلقة في سلسلة الحكم المصري الطويلة بل من أجل محاكمة تاريخ بدأ في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 واستمر حتى الحادي عشر من فبراير 2011.ليس حسني مبارك وحده الذي بقي يقبض على السلطة ثلاثين عاماً، ويقيناً لو لم تداهم عبدالناصر الذبحة القلبية في عام 1970 وتطوي عمراً تجاوز الخمسين سنة بقليل لبقي في الحكم إلى آخر لحظة في حياته، حتى لو امتد عمره حتى الآن، وهذا ينطبق أيضاً على السادات الذي لم يترجل من فوق سرج السلطة في السادس من أكتوبر 1981 طوعاً بل برصاصات حُكْمِ إعدامٍ صَدرَ بحقه من قبل مجموعة إرهابية أخذت القانون بيدها وبلا أي محاكمة.كان بإمكان مبارك أن يهرب بنفسه وبأولاده ويُغادر مصر إلى أحد المهاجر القريبة أو البعيدة لكنه لم يفعل واختار أن تكون نهايته هذه النهاية المحزنة على أن يترك الوطن الذي خدمه ضابطاً شجاعاً في القوات الجوية المصرية الباسلة، وهو رَفَضَ أن يُقبر في ثرىً غير الثرى الذي بقي مستعداً لدفع حياته ذوداً عنه، ولهذا ورغم كل التجاوزات التي أُدخل بسببها فإن المفترض إذا كان لابد من هذا أن ترتب له محاكمة لائقة.