الفاعل

نشر في 05-12-2011
آخر تحديث 05-12-2011 | 00:01
 فوزية شويش السالم رواية «الفاعل» للكاتب حمدي أبو جليل، الفائزة بجائزة نجيب محفوظ، مثال على أن الصدق في العمل الأدبي يرفعه إلى مراتب عالية تعرف كيف تشق دربها بسرعة صاروخية إلى قلوب الناس ومشاعرهم. وأتذكر عندما قال لي الشاعر الكبير أدونيس إن الصدق يصل إلى القارئ حتى وإن كان مجرد رسالة بسيطة، وهذا الكلام ينطبق تمام الانطباق على رواية «الفاعل» التي كُتبت ببساطة شديدة في لغة المحكي السلس، غير المتكلف، البسيط والصادق معاً من دون أدنى تزويق أو تزييف للحقائق المذكورة.

كتبها حمدي أبو جليل عن سيرة حياته كفاعل يعمل في نقل مواد التعمير والبناء، وكشف فيها عن تلك الفئة التي تعمل كعمال «تراحيل» أو بناء في القاهرة وضواحيها، وقد كتبها بعفوية شديدة من غير»حزق» أو عصر أو تكلف أو اصطناع. وجاءت هذه الخلطة بالنجاح لصاحبها، حيث نالت جائزة نجيب محفوظ، وطبعت أربع مرات في زمن قصير نسبياً.

السيرة كشفت عن معالم لحياة العمال في القاهرة لم أكن أتصور وجودها في وسط هذا الكدح اليومي القاتل، فهذا العالم له «سرانيته» المجهولة من الجميع، مثل حياة البوابين واتفاقياتهم مع العمال والشغالين، وكذلك عالم الدعارة الخاص بهم، وأسرار سكان البيوت والشقق والعمارات، وطريقة التقاطهم الرزق، وكيفية خلطهم لمواد البناء والترميم والهدم وحمل أكياس الرمل والاسمنت وغيرها.

كل مراحل حياة التعب هذه يكتبها حمدي أبو جليل بمرح وبخليط لغوي مكون من لهجة بدوية أو قاهرية أو عربية فصحى، قال عنها الروائي المبدع إبراهيم أصلان إنها لغة ذات مذاق لا يخلو من خصوصية مبهجة.

الفاعل هو حمدي أبو جليل، الطالب البدوي الآتي من جماعة البدو التي تقيم على حدود الفيوم، وأهله يملكون الأراضي، لكنهم ككل البدو يستعرون من العمل فيها كمزارعين، فيؤجرونها للفلاحين، ولا يجدون غضاضة في العمل الأدنى، وهو الشغل كعمال في الفاعل، لكنهم لن يصبحوا فلاحين لأرض يملكونها، فهم يرون الفلاحين أدنى مرتبة منهم، لدرجة تجعلهم لا «يتناسبون» معهم ولا يتزوجون منهم.

هذا الطالب يدرس في المعهد، ويعمل كفاعل في البناء، ويكتب روايته وقصصه التي يتفاخر بها أمام أصدقائه وملاك العمارات والبيوت التي يعمل فيها، ويعرض المجلات التي تنشر له قصصه أمام أعينهم.

حياة غريبة مليئة بالمتناقضات التي يعيشها البطل في سيرته وحياة الكدح يوماً بيوم، كتبها بلا تبرم ولا نواح، كتبها وكأنه يستعرضها كشريط فيلم عابر أمامه، لبطل هو واحد آخر ليس هو، مجهول يحاول أن يعريه ويكشف للقارئ عن عيوبه وأغلاطه وحسناته في جرد يُظهر كل ما فيه.

اللغة في الرواية ظريفة جداً، وجديدة على الكتابة، فهي خليط من لغة البدو الممزوجة بالفصحى والعامية المتداولة في الشارع، أي لغة الشارع ولغة الصنايعية والعمال والبوابين، لكنها مفعمة بروح حية تلتقط أرهف التفاصيل، وتكشف عن طواعية اللغة وحيويتها ومرونتها واستجابتها ليد وفكر صائغها، وهذا سر إبداع اللغة العربية القادرة على التلون والتحول بكل مرونة ويسر، كاسرة كل الحواجز المانعة للتواصل، فاللغة العربية وأقصد بها الحرف العربي سواء حضر بعربيته الفصحى أو بعاميته فهو قادر على الإبهار، وعلى التشكل بملايين المعاني المبدعة.

سر نجاح وانتشار هذه الرواية لا يكمن في مستوى قيمتها الفنية، لأنها في رأيي رواية عفوية صادقة، عكست ونقلت حياة طبقة من الناس مجهولة لدى الكثيرين، استطاع الكاتب أن يكشف عنها لأنه عاشها كواحد منها، لكنها لم تحتو على رؤية فلسفية تأملية وتحليلية للواقع المعيش، استعرضته كما هو، وكما حدث في كلام ساخر مرح يروي ويستعرض ما حدث دون أن يتأمل فيه، وأن يدرك ويشعر بأزمته الوجودية فيه بشكل كامل وواضح.

لكن في النهاية، وكما قلت في البداية، سر النجاح يكمن في الصدق الذي يصل بسهولة ويسر إلى كل القلوب لأنها ذات أحاسيس ومشاعر يخترقها الصدق في ومضة، وهذا ما فعلته رواية حمدي أبو جليل التي وصلت في بساطتها العذبة.

back to top