لست في حاجة إلا إلى نظرة خاطفة سريعة على خريطة المنطقة، لتدرك أننا نعيش "زمن الإسلاميين" بامتياز، وأن فيضان التغيير، الذي ضرب عدداً غير قليل من الدول العربية، لن ينحسر إلا بعد أن يوطد لهم، ويكرس غلبتهم.

Ad

"الصحوة الإسلامية" هذه المرة لا تظهر في "عناصر جهادية" تشد الرحال إلى أفغانستان أو العراق، ولا تُختصر في انتشار الحجاب، ومعه اللحية والنقاب، في معاقل الحداثة والعلمانية، ولا تقتصر على سيادة الخطاب الديني وبزوغ عصر الدعاة الجدد، لكنها تُترجم أصواتاً في الصناديق، وتُجسد سلطة وسيادة. لو كان الدكتور فؤاد زكريا، صاحب كتاب "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، حياً اليوم، لأُسقط في يده، ولعرف أن ما وصفه قبل أكثر من عقدين من الزمان بـ"الصحوة الإسلامية" لم يكن سوى إشارات باهتة لـ"أيديولوجيا" مرتبكة وحركيين متخبطين، وهي إشارات لا يمكن مقارنتها، بطبيعة الحال، بما أنجزه فصيل عقائدي عريض، بلغ درجة "التمكين"، وراح يقطف ثمار تفوقه في دول، وينتظر لحظة الحصاد في دول أخرى.

لم يشهد المغرب ثورة كتلك التي شهدتها جاراته الثلاث في الشرق (تونس وليبيا ومصر)، لكن الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت فيه، الشهر الماضي، أعطت الأكثرية لحزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، بعد عقود طويلة من هيمنة التيارات اليسارية على مجمل المجال المعارض في هذا البلد، الذي يحمل مليكه لقب "أمير المؤمنين". أما تونس، فقد تمخضت ثورتها المبهرة عن انتخابات تشريعية، فاز حزب "النهضة" الإسلامي فيها بأكثرية زادت على 41%، رغم خوضه منافسة مع تيارات من اليسار ومن اليسار القومي، لطالما حظيت بوجود في الشارع وتاريخ من النضال. ورغم أن ليبيا لم تشهد انتخابات بعد إطاحة العقيد القذافي ومقتله، فإن نتائج أي عملية سياسية تنافسية تبدو محسومة سلفاً للتيار الإسلامي فيها، خصوصاً بعدما أفصح قادة "المجلس الانتقالي" الذي يقود البلاد في المرحلة الانتقالية عن تبنيهم للشريعة، وعزمهم "تنقية القوانين" من كل ما يتناقض معها. السودان لم يشهد ثورة بطبيعة الحال، لكن الإسلام السياسي يحكم هناك متحالفاً مع العسكر منذ أكثر من عقدين، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن تقسيم البلد، والحروب الأهلية التي ينخرط فيها، والفقر المدقع الذي يعانيه، وخطل السياسات وارتباكها، لم تكن كلها عوامل محفزة للانقلاب على النظام أو الثورة ضده، رغم أجواء التمرد الشعبي، التي سادت المنطقة على مدى سنة كاملة. تبدو مصر مثلاً واضحاً في هذا الصدد؛ فالثورة التي أشعل شرارتها شبان من الطبقة الوسطى المدينية، متبنين شعارات تركز على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، أفضت إلى انتخابات برلمانية نزيهة في مستهلها، أظهرت نتائجها الأولية فوزاً ساحقاً للإسلاميين، الذين يطرحون خطاباً يمينياً محافظاً.

لا يوجد شك في قدرة الإسلاميين مجتمعين على الهيمنة على البرلمان المصري المنتظر تشكيله بأغلبية كاسحة تفوق الـ65%، إذا تحالفت تياراتهم المتباينة من أقصى اليمين إلى المعتدلين، فضلاً عن قدرة "الإخوان المسلمين" وحدهم على تأمين أكثرية تفوق الـ40%، كما أظهرت نتائج المرحلة الأولى للانتخابات التي جرت في ثلث محافظات البلاد. ما زالت "حماس" تحكم غزة في أول نقطة يظهر فيها عرب آسيا، وبعدها مباشرة يتحكم "حزب الله" في القسم الأكبر والأكثر فاعلية من السلطة في لبنان، بينما تبرز "الإخوان المسلمين" كأهم حركة معارضة يمكن أن ترث نظام الأسد في سورية في حال سقوطه، بينما تنشط "جبهة العمل الإسلامي" كأبرز حركة معارضة في الأردن الذي لا تستثنيه الضغوط والقلاقل. وفي حال سقط نظام الرئيس صالح في اليمن تماماً، فإن حزب "التجمع اليمني للإصلاح"، وهو ذراع إخوانية عريقة في هذا البلد، سيكون الفاعل الأهم، رغم ما تنطوي عليه المعارضة من أحزاب يسارية وقومية ذات تاريخ. ويبدو الأمر أكثر جلاء في العراق، الذي تتخاطفه نزعات حزبية ذات إسناد طائفي، تغرق هذا البلد المهم في مستنقعات من الفتن، لا تقل أضرارها عما سببه الاحتلال الأميركي من كوارث ومعاناة.

يبقى أن دول الخليج العربية تشهد أنواعاً من المعارضة، متفاوتة في حدتها وأساليب عملها وقدرتها على التأثير، لكنها تتشابه في إسنادها الديني أو الطائفي، بحيث لا يمكن تصور أي نزعة معارضة قادرة على التأثير والتبلور في تلك الدول إلا إذا كانت منتمية إلى "مشروع إسلامي" بشكل أو بآخر.

لا يقتصر الأمر على الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط فقط، لكنه يمتد أيضاً إلى الدول غير العربية في الإقليم؛ فإيران يحكمها نظام "الولي الفقيه" منذ عام 1979، وتركيا يحكمها حزب "العدالة والتنمية" ذو المرجعية الإسلامية منذ 2002. إنه "زمن الإسلاميين" بامتياز في تلك المنطقة، ولعل هناك أسباب عديدة لهذا التطور الحاد؛ بعضها يتعلق بهزيمة الشيوعية التاريخية واندحار اليسار، وبعضها الآخر يتصل بأفول المشروع القومي وتردي مآلاته، وعجز الليبرالية العربية عن ترسيخ وجودها أو تطوير أدواتها في العمل الجماهيري، لكن المؤكد أن ذلك الصعود لم يجئ على أسنة الرماح، بل أتى من خلال انتخابات يمكن اعتبارها بين الأنزه على الإطلاق منذ عرفت تلك المنطقة آلية الانتخاب. لا يمكن بالطبع اعتبار أن حالة الإسلاميين الصاعدين في دول "الربيع العربي" متطابقة أو حتى متشابهة، كما لا يمكن المساواة بين حركة سياسية ذات إسناد ديني مثل "حزب الله" في لبنان أو "حماس" في غزة، بمعارضة ذات مرجعية إسلامية كتلك الناشطة في الأردن وبعض دول الخليج، بل إن ثمة فارقاً واضحاً أيضاً بين إسلاميي تونس، الذين أعطوا إشارات إلى نزوع حداثي معتدل، وإسلاميي ليبيا الأكثر تشدداً ونصوصية، أو إسلاميي مصر الذين ينقسمون إلى تيارات شتى بعضها شكلاني شديد الانغلاق، وبعضها الآخر أكثر ميلاً نحو الوسطية والاعتدال. ويبقى الأمل قائماً في أن يقترب إسلاميو "الربيع العربي"، ونظراؤهم في الدول التي لم تهب فيها الثورات، من النموذج التركي، باعتداله وتدرجه ورشده، وأن يبتعدوا عن النموذج الإيراني بتشدده وانغلاقه ومخاصمته للعالم. تمر منطقتنا بمنعطف خطير، ويحظى الإسلام السياسي فيها بفرصة نادرة قد لا تتكرر ثانية لعشرات السنين، ورغم أن الإسلاميين سيبدون مطمئنين إلى تمتعهم بالشرعية عبر تفويض شعوبهم لهم، فإن عليهم الحذر، لأن الجمهور الذي فوضهم اليوم سيكون بمقدوره إقصاؤهم غداً، إذا أخفقوا في مواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه بلدانهم، وحولوا الإسلام إلى شعارات وقيود وفزع، بدلاً من كونه طاقة إيمانية ملهمة للعمل على إسعاد الناس عبر تمكينهم من الكفاية والحرية والعيش بكرامة.

* كاتب مصري