كانت مسألة تجديد الإسلام الشغل الشاغل لكثير من المفكرين العرب والمسلمين، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، ولكن جهود معظم هؤلاء ذهبت أدراج الرياح، ولم تفلح هذه الجهود إلا بالإصلاح والتجديد الضيق جداً، ورغم هذا الإصلاح والتجديد الضيق، الخاص بشؤون المرأة في الدرجة الأولى، فإن الإصلاح والتجديد لم يستمرا طويلاً، فعادت المرأة العربية المسلمة إلى سيرتها الأولى، التي كانت عليها في القرن التاسع عشر الميلادي، وعاد الحجاب والنقاب ودعوة المرأة إلى لزوم بيتها، وعدم الخروج منه، كما نرى ونسمع الآن، من دعوات السلفيين الجُدد في مصر.

Ad

ماذا يعني تجديد الإسلام؟

قبل أن نسترسل في معرفة قدرة الليبراليين على تجديد الإسلام، دعونا نعرف ماذا نعني بعبارة "تجديد الإسلام"؟

الشاعر والمفكر الهندي المعروف "محمد إقبال" كتب كتاباً مهماً، وعلامة بارزة في هذا الموضوع وهو: "تجديد التفكير الديني في الإسلام" وترجمه عن الإنكليزية الراحل عباس محمود العقاد، وقد أعجبني في عنوان هذا الكتاب أنه "تجديد التفكير الديني في الإسلام" وليس تجديد الإسلام، فما يلزمنا هذه الأيام حقاً تجديد "التفكير الديني"، تجديداً يرقى إلى تحديات العصر الحديث، وقيمه المنتشرة.

ويقول محمد إقبال في مقدمة كتابه مبرراً ضرورة الدعوة إلى تجديد "التفكير الديني" في الإسلام: "إن الجيل الحديث، بحُكم ما أدركه من تطور، في نواحي تفكيره، قد اعتاد التفكير الواقعي، ذلك النوع من التفكير، الذي زكَّاه الإسلام نفسه، في المراحل الأولى، من تاريخه الثقافي، على الأقل".

ولكن العربَ أمةٌ عريقةٌ

ونحن- كعرب- أمة عريقة جداً، فهل هذه العراقة سبب نكوصنا الدائم إلى ماضينا، وعجزنا عن قبول التجديد؟

فالمفكر التونسي العفيف الأخضر، يؤكد، أن الأمم ذات التراث العريق، تغدو بنكوصها إلى ماضيها المجيد، عاجزة عن قبول التجديد!

فالتراث يستوجب التغيير، والتجديد، والحركة، لكي يستطيع خدمة الحياة التي تستحضره، وإلا، فإنه يصبح تراثاً متحفياً للفرجة، والتذكُّر. والحداثة هي: "الحالة الناتجة عن تطور زمني، يسمح للوضع القائم المتجدد تلقائياً، أن يُعبِّر بشكل أو بآخر، عن روح العصر". كما يقول الباحثان التونسيان، رشيدة وفتحي التريكي.

إشكالية التراث من عوائق الحداثة

إن واحداً من عوائق تقدم الحداثة في المجتمع العربي، وفي الفكر العربي، هو إشكالية التراث، وكيفية التعامل مع هذا التراث.

إنه قدر الأمة العربية، التي يجب أن تتعايش معه حتى تعيش، والهروب منه، هو هروب إلى الأمام، وترتيب البيت معه، أقل عسراً من ترتيب البيت بدونه، وتجديد التراث أقل خطورة من إهماله، وإن كان التجديد، يتطلب وقتاً طويلاً، وثمناً غالياً. فالتراث العربي، ليس مجرد موضوع ما، إنما هو محور رئيس من المحاور، التي دارت حولها إشكاليات سياسية، واقتصادية، وفكرية، واجتماعية كثيرة، ومنها إشكالية الحداثة، فقد ظل الفكر العربي حائراً، تائهاً، ملتبساً، غامضاً، متردداً في تعامله مع التراث.

ما خطوات تجديد «التفكير الديني»؟

إن التجديد في "التفكير الديني" يعني اتخاذ الخطوات الفعلية التالية:

1- أن يتولى المثقفون قضية تجديد التفكر الديني، خصوصاً الليبراليين، لعمق ثقافتهم، وتنوعها، واتساع أفقها، فوظيفة المثقف الحر، في هذه الحالة، الدفاع عن الحقيقة ضد الغوغاء (الجماهير)، وعن العقل ضد النقل، وعن التفكير ضد التكفير، وعن التجديد ضد التقليد، وعن الحداثة ضد القدامة، وعن الصيرورة ضد الاستمرارية، وعن المتغيرات التاريخية ضد الثوابت العابرة للتاريخ؛ أي الصالحة زعماً لكل زمان ومكان، وعن التقدم المعرفي والاجتماعي ضد التمسك السقيم العقيم بما قبل العلم وقبل التاريخ، وعن ضرورة نقد الذات لجعلها معاصرة لعصرها ضد تمجيد الذات النرجسي المتخلف والمُخلّف للوعي، وعن الانتماء فكراً ووجداناً للقرية الكونية ضد الانطواء الفصامي على الهوية، وأخيراً، الدفاع عن الحضارة ضد السقوط في الهمجية.

2- أن يكون المدخل الوحيد للإصلاح هو "التجديد الديني" في المواد، والمناهج، التي تتعلق بمقررات المدارس، والحوزات، والجامعات الشرعية، التي تلقن التعليم الشرعي، أو التجديد في مواضيع المعارف، ومناهج التربية في التعليم العام، بما يناسب مقتضيات واقعنا، وخصوصياتنا الحضارية. وضوابط التجديد، ومناهجه، وأهل اختصاصه، مدوّنة ومعلومة في عقول العلماء الثقاة، أو أهل الاختصاص من أهل الذكر.

3- ألا يخضع الإصلاح والتجديد للدعوات الخارجية، إلا بالتوافق العرضي غير المقصود، ويجب أن نتعظ بقول الساسة الأميركيين أنفسهم، قبل أكثر من ربع قرن بأن "من يتدخل في مناهجنا الدراسية، سنعتبره بمنزلة إعلان حرب علينا". ولهذا، يصبح التحدي الأول لأي نقاش في هذه القضايا، هو كيفية عزل مسألة، الضغوط الخارجية الأميركية عن الضرورات الملحة، للمضي قدماً في طريق التجديد الفقهي الإسلامي، انطلاقا من حاجات مصيرية ملحة، نابعة من داخل المجتمعات العربية والإسلامية، تتطلبها مقتضيات التطوير العصري والنهوض الحضاري؛ لأن الاستسلام لفكرة أن الحديث عن التجديد في "التفكير الديني" باعتباره مؤامرة أميركية ضد العرب والمسلمين، يؤدي إلى الوقوع في فخ إنكار الحاجة إلى التجديد الديني، وتأجيل الخوض في هذه القضية لآجال طويلة غير معلومة، مما يساهم في تفاقم المأزق الحضاري العربي الإسلامي لعقود طويلة قادمة، ربما تؤدي إلى خروج العرب من التاريخ، أو بالأحرى الخروج من المستقبل. فتزداد الأوضاع العربية سوءاً وتأزماً، بدلاً من المسارعة إلى تبني خطط الإصلاح والتجديد في كل مناحي الحياة، في المجتمعات العربية والإسلامية، كما يقول الأكاديمي السعودي عبدالملك سلمان ("العرب بين التجديد الديني والإصلاح السياسي").

4- وأخيراً، أن تبتعد الأصولية الدينية عن "اللغوصة" في قضية تجديد "التفكير الديني" في الإسلام، حيث إن الأصولية تعني هوساً بالنقاوة؛ أي نقاوة العرق، ونقاوة الهوية، ونقاوة اللسان من اللحن والدخيل من الألفاظ، ورُهاب التطور والتجديد.

وإذا أردنا الاستفادة من العولمة المستقبلية في العالم العربي، فإن علينا العمل على  تعميق الحس النقدي، والحض على الابتكار والتجديد.

شهادة العقاد في قدرة الليبراليين

يُقرُّ الراحل عباس محمود العقاد في كتابه: "الإسلام في القرن العشرين... حاضره ومستقبله" أن الليبراليين هم الأقدر على تجديد "التفكير الديني" ويأتي بمثال المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي، والباحث البريطاني جب Gibb أستاذ العربية والدراسات الإسلامية في جامعة أوكسفورد، الذي يقرُّ- هو الآخر- ويعترف بأن "تجديد التفكر الديني" في الإسلام،  يبدأ من جانب الليبراليين، وأن التجديد ينتشر في العواصم- حيث يقيم الليبراليون- وقلما يسري التجديد في الأقاليم.  ويقول الباحث والأكاديمي ولفرد كانتول سميث أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة "عليجرة" الهندية، بأن دُعاة التجديد، أثبتوا قابلية الإسلام للتحضر، والتمدن. ("الإسلام في القرن العشرين"، ص 119). كذلك فإن كتاب تريتون Tritton، أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن أكد، أن ليبراليين كمحمد إقبال الهندي والشيخ محمد عبده المصري، هما أقدر من غيرهما على هذا التجديد (ص120).                                                      * كاتب أردني