تحديات الدولة الدينية في العصر الحديث
تحدثنا في مقال الأربعاء الماضي عن بعض الصعوبات والعقبات التي تقف في وجه الدولة الدينية في العصر الحديث، وهذه الصعوبات ناتجة في الدرجة الأولى من أن توقيت قيام الدولة الدينية الآن خطأ فادح، بعد أن خطت الدولة المدنية الكونية هذه الخطوات الواسعة نحو الحرية والديمقراطية والتعددية والمؤسسات الدستورية المختلفة ومنظمات حقوق الإنسان والروابط العالمية المختلفة التي تراقب وتحتج وتفضح ممارسات الأنظمة الدكتاتورية القروسطية لانتهاكات حقوق الإنسان.لقد كان بالإمكان قيام دولة دينية في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، وبعد تخلي العثمانيين عن العالم العربي عام 1918، حيث كان المجتمع الدولي شبه مهيأ لمثل هذه الدولة، وكان المجتمع العربي الذي حُكم مدة أربعة قرون (1517-1918) من قبل الإمبراطورية العثمانية الدينية مهيأً لمثل هذه الدولة الدينية، أما وأن الدولة الدينية لم تقم في ذلك الحين، وقيام طبيعة الدول (دينية أو مدنية، دكتاتورية أو ديمقراطية، عسكرية أو مدنية، طائفية أو قومية.. الخ) مرتبط أشد الارتباط بظرف تاريخي معين، وبمعادلات سياسية معروفة. إذن، فدعوة الدولة الدينية هي حلم من أحلام الأحزاب السياسية-الدينية، وهي خيال من أخيلتهم، التي يصعب تحقيقها الآن على أرض الواقع. إذن، فإن قيام دولة دينية في العالم العربي الآن سوف يواجهه تحديات كثيرة، وصعوبات يعجز عن اجتيازها دعاة الدولة الدينية، ومنها:
1- اعتبار إرادة العامة للأمة المصدر الوحيد لشرعية الحكومة والمؤسسات والقوانين والتداول على الحكم عبر صناديق الاقتراع حصراً، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وبين المال العام ومال الحاكم، والاعتراف باستقلال الإعلام، وحقه في نقد سياسة الحكومة.2- بُعد ثقافتنا عن الاقتصاد الحديث، فثقافتنا مازالت غير معترفة بالمُلكية الخاصة، فالحاكم يحق له أن يصادر مُلكية الفرد نظرياً، إذا أساء استخدامها وعملياً كل ما شاء ذلك، عملاً بحديث نبوي موضوع وغير صحيح، أيام الأمويين، وهو: "أطع حاكمك، ولو أخذ مالك، وضرب ظهرك".وهكذا كانت الدولة دائماً هي ربّ العمل، وهذا ما أعاق ظهور المجتمع المدني، ولا مندوحة من استعارة الفكر الليبرالي، للانتقال من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق، عدا قطاعات التعليم، والثقافة، والصحة.3- تاريخياً لم تدخل الحداثة بلداً إلا بواسطة نخبته، أي الأقليات السياسية، والفكرية والثقافية الشجاعة والمؤثرة في الوعي العام. هذه الشجاعة هي ما تفتقر إليه معظم نخب العالم العربي. إن إحجام النخب أو عجزها عن الإصلاح يعطي دور العامل الخارجي في إدخال الحداثة إلى العالم العربي أهمية، ومما يجعل هذه المهمة أقل إثارة للممانعة، هو وجود طلب داخلي على الحداثة، خاصة لدى القطاع المتعلم من الشباب والنساء والأقليات المضطهدة في العالم العربي.4- كون الشراكات الاقتصادية، والثقافية، والعلمية، مع الغرب حكومات ومجتمعات مدنية، واعدة بأن تكون بوتقة تلاقح ثقافي وحداثة عبر مساعدة العالم العربي بذكاء ونجاعة على نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني، ومكافحة التمييز ضد المرأة والأقليات، وإصلاح التعليم، وتعزيز المجتمع المدني، بمكوناته الاقتصادية، والإنسانية. وتلعب الشراكات بين المجتمع المدني في العالم العربي والغربي دوراً تحديثياً بامتياز؛ لأنها تشكل بوتقة للتلاقح الثقافي الطوعي الذي هو من أكثر عوامل إدخال الحداثة نجاعة. وفي هذا المنظور يُشكِّل التنسيق، واللقاءات الدورية، والمؤتمرات، والندوات المشتركة، والجامعات الصيفية الحرة، مكاناً مثالياً للدفاع عن القيم المشتركة، والمثل الإنسانية. 5- استطاعت تونس تحديث قوانين الأحوال الشخصية في بداية الاستقلال 1956، وتحديث التعليم الديني في بدايات التسعينيات، بلا تدخل خارجي، لأنها كانت تمتلك مشروعاً مجتمعياً عقلانياً وحديثاً. أما معظم النخب العربية اليوم، فتحتاج إلى تدخل خارجي مدروس لإخراجها من خوفها الأسطوري من المواجهة مع المتشددين الدينيين، وبناء ديناميك يساعد على تخليص المجتمعات العربية من قدامتها وانسداداتها، وعجزها المزمن عن تحديث قوانينها الشخصية التي عمرها 15 قرناً، وتعليمها المتخلف، ودساتيرها الطائفية.6- إن الدخول في الحداثة العالمية طوعاً أو كرهاً، يتطلب قطيعة مع كثير من سلوكيات ومؤسسات وقيم الماضي التي لم تعد متكيفة مع متطلبات العصر وحاجات المواطنين الحقيقية، فمعايير عصرنا وحاجات مواطنينا تقتضي الانتقال من اقتصاد تتحكم به القوانين الثابتة إلى اقتصاد تحكمه قوانين السوق المضبوطة بمؤسسات وضعية، ومن الحكم الفردي إلى دولة القانون، ومن التمييز بين الرجل والمرأة، إلى المساواة بين الجميع في حقوق المواطنة وواجباتها. ومن اضطهاد الأقليات إلى احترام حقوقها، تحت طائلة التدخل الخارجي، ومن الاحتكام إلى محكمة النقل إلى الاحتكام إلى محكمة العقل، وإلى عصر حقوق الإنسان، ومن ثقافة كراهية الآخر إلى ثقافة احترامه وحواره والتبادل الاقتصادي والثقافي معه، ومن التعصب الديني إلى التسامح الديني، بل احترام الحق في الاختلاف بما هو درجة أرقى من مجرد التسامح، ومن الثقافة العمياء إلى ثقافة التساؤل والفهم، ومن ثقافة الحقيقة المطلقة إلى ثقافة الحقيقة النسبية.7- إن الدخول إلى الحداثة كرهاً تحققه الجيوش على غرار ما حدث في صربيا لإنقاذ سكان كوسوفو المسلمين من الإبادة وسكان صربيا من الحكم الفردي، أو في العراق لإنقاذ العراقيين من غول المقابر الجماعية.أما الدخول إلى الحداثة طوعاً فالمدخل إلى قرار سياسي عقلاني وشجاع يضع حداً للقوانين القروسطية الجاري بها العمل وللتعليم الديني الظلامي؛ أي المدرسة الدينية اللاعقلانية السائدة، التي تعادي العقل، وتعادي بالتالي الحداثة.8- لم تنتقل الأمم الحديثة من السلطة السياسية المطلقة إلى السلطة السياسية النسبية، التي تقبل أن تعارضها سلطة مضادة، إلا بعد أن نقلتها نخبتها الحديثة من سلطة النص المطلقة إلى سلطة العقل النسبية؛ أي التي تعترف بشرعية الاختلاف، وبتعددية القناعات، والآراء، والنظريات، وبأن الحقيقة هي دائماً جزء من حقيقة أشمل برسم الاكتشاف.9- انتقالنا إلى الحداثة سيمر أيضاً بنفس المسار: تحويل نصوص التراث إلى موضوع نُسائله بالعلوم الإنسانية، لمعرفة ما وراء أبعاده الرمزية من عوامل موضوعية، وما وراء حمولته الروحية من مكونات تاريخية. ولنا في النخبة الأوروبية الحديثة قدوة حسنة، فقد فصلت منذ "الرسالة اللاهوتية- السياسية" في القرن السابع عشر، بين العقل والنقل، وجعل الفيلسوف الهولندي سبينوزا (1632-1677) النقل خاضعاً لمساءلة العقل، مثله مثل أي ظاهرة طبيعية.10- وأخيراً، لم يعد دخول المجتمعات العربية للحداثة خياراً بين خيارات أخرى، بل أصبح الخيار الوحيد، فالمجتمع المدني والإعلام العالميان يطالبان به، خاصة فيما يتعلق بالحداثة السياسية، التي تنصُّ على احترام المساواة بين الجنسين، وبين المسلم والآخر في حقوق المواطنة، والدفاع عن الأقليات، ونزاهة الانتخابات، وضرورة التداول السلمي على الحكم، واحترم حقوق الإنسان. وهو ما تفرضه الهيئات الدولية والدبلوماسية الدولية فرضاً كلما تعلق الأمر بانتهاك غليظ للقانون الدولي، أو لحقوق الإنسان، أو للمصالح القومية للدول الكبرى وقطاعات متزايدة من السكان ترغب فيه، بل وتعّول على التدخل الخارجي لفرضه على حكومتها المستمرة في الاستبداد الشرقي المعادي للمرأة، والآخر، وحقوق الإنسان، والمواطن، والانفتاح على الحداثة سلوكاً، ومؤسسات، وقيماً. فهل تستطيع الدولة الدينية أن توجه هذه الأعاصير التي تعتبر بمنزلة تحديات وعقبات صعبة في وجه إقامة دولة دينية في القرن الحادي والعشرين، وفي مطلع الألفية الثالثة؟* كاتب أردني