مرافئ الوهم
خلال انتفاضة الشعوب العربية وثوراتها السلمية في العام الماضي، والتي لاتزال مشتعلة في أكثر من عاصمة عربية، برز سؤال كبير حول مدى قدرة الأدب والفن على الحضور في مواجهة الحدث الإنساني اليومي الراعف والمصبوغ بالعنف والدم والموت. وهل من فسحة يستطيع من خلالها المواطن العربي، المطحون بعجلة الحدث السياسي-العسكري، أن يلتفت للأدب والفن، بينما هو يخوض في طين ومأساة الوجع اليومي، الذي قد يأتي على حياته. إن قانون الحياة بعجلته اليومية الدائرة، لا يقف عند منعطف أو حدث بعينه، بل ان لوحة حياة البشر اليومية، لا يمكن أن تكتمل إلا بمختلف عناصرها، ومؤكد أن الفن والأدب هما في اللب من تلك العناصر. صحيح أن حياة الإنسان أثمن وأهم من أي عمل فني أو أدبي، ولكن ما هو صحيح أيضا أن رصد وترجمة وتوثيق معاناة الإنسان وصراعه في سبيل حياة أكثر حرية وكرامة وديمقراطية وسلام، لا يقل بقدسيته عن أي تظاهرة تدين الظلم والطغيان وتمجد الحياة والمستقبل الموعود. فكتابة الحدث الإنساني بأطيافه الحياتية المتعددة تُعدّ بمنزلة التأريخ للإنسان والوطن، مثلما تبقى شهادة ماثلة للعيان، ونابضة بالحياة، بعد أن ينسحب الحدث، ويختفي في طيات الزمن.
لقد أدانت الثورات العربية السلمية، في مختلف أقطار الوطن العربي، مظاهر الطغيان والدكتاتورية والظلم الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة، وتأتي رواية "موانئ الوهم" للكاتبة ليلى الأطرش، الصادرة عن دار الآداب، لتجسد معنى الخيبة والانكسار والضياع، الذي يعانيه المواطن العربي، حين يضطره ظرفه المعيشي القاهر إلى هجرة بلده حفاظاً على كرامته وحياته. تعجّ الرواية بموانئ الوهم، حيث تبحر سفن البشر باختياراتهم قاصدة حياة مؤملة، لكنها سرعان ما تجد نفسها تبحث عن طوق نجاة وسط أمواج الخيبات المتكررة، وما تلبث تلك السفن أن ترسو على موانئ وشواطئ الوهم. لكنه وهم بثمن غالٍ، فهل أثمن من عمر الإنسان؟ والرواية تقدم أعمار شخوصها بائسة تُنثر مع ريح الحياة العاصفة، تاركة الحسرة والضياع في قلوب أصحابها. رواية "موانئ الوهم" في جميع فصولها، تأتي على لسان سارد ينطق بصيغة ضمير المتكلم، وإذ تبدأ صفحاتها الأولى على لسان بطلتها "شادن" الإعلامية والروائية التي تعدّ نفسها للقاء حبيبها السابق "كفاح أبو غليون"، وسط مخاوفها من لقاء طال انتظاره، وهواجسها بلقاء جاء بعد ربع قرن، حين لا يتبقى من الحبيب إلا صورة باهتة وذكريات تأبى على النسيان. لكن الرواية تنحرف بقارئها إلى بوح آخر يأتي على لسان المرأة العراقية "سلاف" الباحثة ومساعدة شادن في برنامجها التلفزيوني، تروي قصة مرارات عذابها بعلاقة حبها وطلاقها من زوجها السابق جواد الجبالي، واضطرارهما إلى الهرب خوفاً من بطش النظام البعثي الدموي، يوم كان حكم البعث يجثم على قلوب الشعب العراقي، ليشرده في أصقاع الأرض. وحده الوهم الإنساني المتفجر والمؤلم هو الحاضر الأكبر في الرواية، "ألقاك، فإذا أنت متهدل بالسنين، ولا تثير حتى شهوة استرجاعك". ص27، هكذا رأت شادن كفاح، ولم يكن الأمر أفضل في لقاء سلاف بجواد طليقها، الذي يصرّ على إرجاعها لذمته بأي طريقة، حتى لو عبر مرورها بزوج آخر، فينبري قلبها برده: "ماذا تظن؟ هل أنا متاع؟ امرأة من الشارع تمارس الجنس بهدف أن أصلح جنونك؟ هل تعتقد أنني ورقة شيك تجيره له ثم يعيده لك من جديد!". ص 109 "مرافئ الوهم" رواية تخوض في طين ومأساة الوجع الإنساني العربي، وجع المرأة والرجل، في مجتمعات دكتاتورية لا ترى في اختيار الفرد الخاص إن خالفها إلا خروجاً يستلزم ملاحقته وربما قتله.