العملية السياسية هي الحاضنة الطبيعية لازدواجية المعايير .

Ad

يدرك أغلب محترفي السياسة في العالم الواسع أن ازدواجية المعايير ليست موضوعاً للنقاش في المعارك السياسية، بل هي جزء طبيعي في سياقها. ومن الطبيعي أن يتخذ السياسي موقفاً في زمن وظروف معينة، ويتخذ عكسه في ظروف أخرى؛ فازدواجية المعايير أو الانتقائية تثار عادة للشحن الإعلامي، ولكنها في حيثيات الصراع وتفاصيله لا تثار إطلاقاً.

أما في النظام الديمقراطي فإن المسألة تصبح أكثر تعقيداً، حيث تحدث أحياناً تحالفات بين قوى متناقضة، مما قد يؤدي إلى التنازل عن بعض المواقف أو التهاون فيها. أما إن دخل على الخط استخدام أدوات كالفساد والرشاوى فإن الصورة تصبح أكثر التباساً وارتباكاً. هذه القواعد تنطبق على السياسة المحلية، كما تنطبق على السياسة الخارجية، إقليمية كانت أو دولية، بالطبع بدرجات وتفاصيل مختلفة.

فلنأخذ مثلاً قرار الجامعة العربية الأخير بتعليق عضوية النظام السوري بسبب استمراره في استخدام العنف ضد المواطنين السوريين. فهل الدول العربية التي أصدرت ذلك القرار هي دول إسكندنافية مثلاً؟ وهل تلتزم تلك الدول بمعايير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ الإجابة معروفة ولا داعي للإفاضة فيها؛ فالمبدأ المعلن الذي اتُّخذ على أساسه القرار كان مبدأ إنسانياً بغض النظر عن نوايا ودوافع وطبيعة الذين اتخذوه. وعادة ما تؤدي القرارات التراكمية في الشق الإنساني بالذات إلى خلق قيم متواترة ليس من السهل التراجع عنها. هكذا تطورت مبادئ القانون الإنساني الدولي، وهكذا نشأت المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، ولدينا على ذلك أمثلة كثيرة لا حصر لها؛ فمن يريد التعامل مع ذلك القرار بالنمط السياسي التقليدي فإنه لن يجد فيه إلا ازدواجية معايير، أما مَن يريد أن يراه في سياقه التاريخي وبالذات في بعده الإنساني فسيراه بشكله التراكمي الإيجابي.

النظام السوري، تعامل مع المشكلة من المنظور التقليدي، فمن جانب نجده يتهم الجامعة العربية بأبشع الألفاظ، كالعمالة للأجنبي، أو أنها مطية للاستعمار، أو، وهذه فيها خفة دم، أنها الجامعة العبرية، وهي قد تكون كذلك، فالجامعة العربية تعاني جملة موبقات لن تزيدها الاتهامات السورية إثماً. ولكن كيف، في ذات اللحظة، يدعو النظام السوري إلى اجتماع قمة لمناقشة القرار ضد سورية؟! فإما أن الجامعة مخترقة وتعمل لحساب الصهيونية والإمبريالية أو أنها جامعة عربية تسعى إلى الصالح العربي العام. لا يمكن جمع الاثنين معاً، فإن كانت الأولى فلماذا الدعوة لاجتماع قمة مخترقة صهيونياً؟ أما إن كانت الثانية فلماذا يتم وصفها بهذه الأوصاف؟

ازدواجية المعايير للأسف هي جزء لا يتجزأ من العمل السياسي، يجيدها السياسيون، ويتعاملون معها كأدوات مشروعة، ولذلك لا يمكن للعقائدي مهما ادعى التزامه أن يمارس السياسة دون ازدواجية، فالسياسة نسبية، متغيرة دائماً، لا يوجد فيها ملائكة، بل بشر، يتعاملون مع الواقع، وليس مع الأحلام، فإن وُجِد في تحقيق تلك الأحلام صعوبة، فلا بأس من تأجيلها. وهنا يأتي إبداع السياسة في قدرتها على إحداث حالة توافق بين المتناقضات بالمقابل، ونعود هنا للمسألة السورية، فإن الإنسان وكرامته، وحياته، وحريته أمور مطلقة، لا مكان فيها للنسبية، ولا مجال فيها لازدواجية المعايير، وعندما يصدر قرار يتوخى إيقاف نزيف دم، لا يصبح مُهماً مَن أصدر القرار وما هي دوافعه ونواياه ومنطلقاته. بل إن الكثير من القرارات التاريخية التي رسّخت قيماً إنسانية جاءت في ظروف ومن دول وجهات لا يمكن وصفها بأنها حريصة على الإنسان وكرامته. السياسيون مزدوجون بطبعهم وبحكم ممارستهم، أما في الإطار الإنساني فلا مكان لمزدوجي المعايير، فالإنسان مطلق، وكرامته مطلقة، لا تخضع للتفسيرات، ولا للمصالح، ولا للاتجاهات ولا للتحزبات ولا للانتماءات، أياً كان شكلها ولونها ووزنها؛ فالإنسان قيمة مطلقة والسياسة عملية نسبية.