المجتمع الخائف
نحن مجتمعات خائفة، مستلبة، لا تقدر على تسيير أمورها إلا من الخارج، فإن تولى أمورها أبناؤها ساموا أهلهم سوء العذاب وسيطروا على مقدرات مجتمعاتهم، واستولوا على أشيائهم، وفرقوا بين مللهم وأصولهم وأعراقهم ومذاهبهم. لا يختلف في ذلك من ادعى إسلاماً أو قومية أو يسارية، وسواء كان جمهورياً أو وراثياً فالتشابه لا تخطئه العين. نحن نعيش في مجتمع خائف من نفسه ومن كل ما هو خارج دائرته. فكلما زاد الحديث عن الوحدة الوطنية دل ذلك على أنها ليست إلا وحدات مبعثرة وهي مريضة معلولة.ويتضح تأصيل ذلك الخوف عن طريق إثبات كل فئة أحقيتها في الامتيازات بدءاً بتحويل ذلك الخوف إلى منطق، كل حسب رأيه، ليتحول الخوف الى حقائق تتجذر في الأذهان، يعيش عليه الناس ويقتاتون به خبزهم اليومي.
هو سياق ذهني يبدأ منطلقاً إما من شعور منقوص بالتفوق وخشية فقدانه للغير أو شعور بالتهميش، وشيئاً فشيئاً تصبح تلك المشاعر حقيقة في الرؤوس ويصبح منطق الخوف ملهماً للخائفين فارضاً الحواجز ورافعاً للأسوار وخالقاً للجزر الاجتماعية المعزولة. وشيئاً فشيئاً يدخل سياسيون وأركان حكومة متهالكة وإعلاميون متفذلكون رغبة في الاستفادة من ذلك الوضع، فيدفعون به بسهولة إلى التفكك والتحلل وضرب بعضه ببعضه ما يرفع من وتيرة الخوف ويربطها بحالة الإحباط والتردي وانعدام العدالة وانتشار الفساد، وتأتي الانتخابات لتزيد من تسارع دقات القلوب الخائفة، فالانتخابات ليست إلا مؤشراً علنياً على حقيقة الصراع في المجتمع. وتتشوه الصورة عندما يكون ذلك الصراع لاعلاقة له بالإنتاج أو الهيمنة على الموارد، فيتحول ببساطة الى شعور فوقي بالتفوق على الآخر أو شعور بالتهميش يراد له أن ينصلح. وهكذا لا يكون مستغرباً أن يأخذ مجمل التراشق بين الفئات طابعاً تاريخياً، أو حول من هو الأكثر ولاءً، أو حول الجنسية أو سحب الجنسية، أو ترحيل هذه الفئة من البلاد إلى حيث جاؤوا، أو محاولة إثبات من قدم تضحيات أكثر، أو أن غيرنا لا يستحقون، أو أننا نحن الذين بنينا الوطن وأنتم طارئون، أو أن غيرنا مزدوجون وغير ذلك من الاتهامات البليدة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وما كل تلك الاتهامات المتبادلة إلا مؤشرات على الخوف، فالجميع خائف على هويته داخل مجتمع غير متماسك. حينها يتمكن صوت معزول أو مستهتر أو مدفوع قادر على شق المجتمع لمزيد من التفتت والتفكيك ومن ثم البحث عن شماعة لعلاج الخوف فيتم البحث عن مؤامرة خارجية لتفسيرها، بينما المؤامرة مرتكزة داخلنا.وفجأة يتراكض المتطرفون أنفسهم بحثاً عن الحل ليعلنوا أن الحل بإصدار التشريعات وقد يكون، ولكن الأهم هو أن المجتمع في حاجة إلى شعور بالأمان فالناس خائفون، كل بطريقته وكل حسب تصوره. بينما الحقيقة أنه في مجتمع واثق بنفسه لا يعاني الخوف فإن جميع المواطنين سواسية وكل من يشكك في ولاء مواطن آخر يصبح عنصر تخريب وتدمير وأن الأصوات الشاذة لا توثر بل تضمحل وتتأخر كالشمع تحت شمس يوليو الحارقة.المجتمع في حاجة إلى أن يتصالح مع نفسه بكل فئاته والابتعاد عن دعاوى التفوق أياً كان نوعها، وإلا فمركبنا غارق، وندخل بكل غرور إلى رقصة زار مجنونة يقودنا فيها سفهاؤنا على حد الخنجر المسموم، وعلى أنغام أغاني السيف والدم الذي سيغمرنا جميعاً دون استثناء، لنفرح بغبائنا حين يصبح الوطن جثة هامدة ونقول، إن كان لنا قول، قد كان لنا يوماً وطن جميل قتلناه بتفاهتنا، فليرحمنا الله في الأولى والآخرة.سأتوقف عن الكتابة بعض الوقت ونعود في وقت لاحق بإذن الله.