"الدولة رقم 194 في الأمم المتحدة" هو شعار الحملة المتعلقة بمنح الفلسطينيين مقعداً في الأمم المتحدة، فضلاً عن الاعتراف بسلطتهم باعتبارهم البلد رقم 194 في هذه الهيئة الدولية. إنها الفرصة الثانية التي يحصل عليها الفلسطينيون، فقد سبق أن عُقدت جلسة للجمعية العامة في عام 1947 لمعالجة القضية الفلسطينية والصراع بين العرب واليهود على الأراضي المُتنازَع عليها.
في شهر نوفمبر من تلك السنة، حصل تصويت على قرار التقسيم وطريقة تعايش الدولتين جنباً إلى جنب، لقد كانت النتائج متقاربة.كان القرار يتطلب دعم أغلبية الثلثين، ولكنه كسب في النهاية 33 صوتاً مؤيداً و13 صوتاً معارضاً، بينما امتنعت 10 دول عن التصويت وسُجّل غياب دولة واحدة عن الجلسة، وكانت إسرائيل ستصبح العضو رقم 58، لكن رفض الفلسطينيون من جهتهم المقعد رقم 59 في الأمم المتحدة.أراد الدبلوماسيون العرب أن يفشل القرار، ثم انتظر الفلسطينيون خلاصهم على يد داعميهم العرب المزعومين، لكن بسبب التهديد بالحرب، حصل الفلسطينيون على وعود زائفة وانتفت الحاجة إلى إيجاد تسوية، فأخبر أمين عام جامعة الدول العربية، المصري عزام باشا، الدبلوماسي الصهيوني الشاب آبا إيبان أن العالم العربي لم يكن مستعداً لعقد أي تسوية، فقال: "العالم العربي يعتبر اليهود من الغزاة، لذا سيعمد إلى محاربتكم، ولا مفر من الحرب". بالنسبة إلى الصهاينة، كان ذلك التصويت أشبه بإعلان الاستقلال، لكن فازت الجماعة اليهودية في فلسطين بالسباق نحو الاستقلال ميدانياً، وهو العنصر الأهم، ومع ذلك، بقي وضعها هشاً.كانت بريطانيا قوة الانتداب في فلسطين منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وسرعان ما تعبت من الصهاينة والعرب ومن هذا الصراع المرير الذي كان يحتّم عليها إطلاق الأحكام على الادعاءات المتناقضة من الطرفين، فكانت الإمبراطورية البريطانية مفلسة وتسعى إلى إيجاد طرق لتخفيض أعبائها، وفي أغسطس 1947، كانت قد تخلت عن الهند ووقفت من دون تحريك أي ساكن أمام موجة كارثية من العنف بين الهندوس والمسلمين، فوصلت الإمبراطورية بذلك إلى نهاية مهينة بعد هيمنةٍ دامت فترة طويلة، فلم ينفع سفك الدماء وهدر الأموال في فلسطين، بل كانت الإمبراطورية البريطانية تتوق إلى نقل أعباء المشكلة إلى الأمم المتحدة.كذلك، لم تكن المسائل المتعلقة بالتقسيم وبقضية الدولة اليهودية ضمن حسابات المجالس الأميركية النافذة، فكان الرئيس هاري ترومان متردداً بهذا الشأن، وهو اقتبس بعض العبارات من الكتاب المقدس وتحدث عن قضية الدولة اليهودية، ولكنه كان يواجه ضغوطاً هائلة من نظام إداري قائم على حفظ الأمن القومي ولا يتعاطف بأي شكل مع المشروع الصهيوني، وكان ترومان قد وصل إلى الرئاسة مصادفةً بعد وفاة فرانكلين روزفلت، وكان يفتقر إلى الثقة اللازمة بالنفس لمعالجة هذا النوع من الأزمات. في المقابل، كان وزير الخارجية في عهده، الجنرال جورج مارشال، متردداً بشأن فكرة التقسيم خشية اندلاع حرب قد تتطلب تدخل القوات الأميركية في فلسطين، وكان ترومان يكنّ تقديراً عالياً لشخص مارشال الذي يعتبره أحد "أعظم القادة في التاريخ"، وكان وزير الدفاع جيمس فورستال أكثر عدائية، وعلى صعيد آخر، برزت المصالح النفطية في العالم العربي، إذ لا بد من حماية الموقع الاستراتيجي المهمّ في هذه المنطقة.كان التصويت في الأمم المتحدة عشوائياً وفوضوياً، وفي نهاية المطاف، تم تجاهل جميع الشكوك الأميركية واختارت الولايات المتحدة دعم قرار التقسيم ومارست الضغوط لإقراره، وانضم إليها الاتحاد السوفياتي في مساعيها، لكن في المقابل، امتنعت بريطانيا عن التصويت على القرار، وكان المليونير النافذ هارفي فايرستون هو من ضمن تصويت ليبيريا على قرار التقسيم، فترددت الفلبين من جهتها في دعم القرار، ولكنها عادت وأيّدته، وألمحت الهند إلى أنها تميل إلى دعم القرار، ولكنها فضّلت في النهاية عدم استفزاز مشاعر مواطنيها المسلمين، وعلى صعيد آخر، سرت شائعات مفادها أن مندوب كوستاريكا باع صوت بلده مقابل 75 ألف دولار. نتيجةً لذلك، حذر عزام باشا من الوضع قائلاً: "سيكون خط التقسيم مجرّد خط للدم والنار"، وسرعان ما أثبت التاريخ أنه كان على حق، فبعد مرور ستة أشهر، وتزامناً مع مغادرة بريطانيا من فلسطين من دون إقامة حفل تسليم المسؤوليات، اندلعت الحرب فعلاً.لكن لم تتحقق السيناريوهات السلبية بالنسبة إلى الدولة اليهودية الجديدة، فقد تماسكت إسرائيل في وجه الصراع الذي واجهته، وفي المقابل، واجه الفلسطينيون الذين راهنوا على وصول الفرسان العرب لإنقاذهم هزيمة كبرى وفقدوا أراضيهم، فأُدرجت قضيتهم ضمن مطالبات عربية أشمل وتقرر تقسيم فلسطين المنتدبة، فنشأت الدولة اليهودية الجديدة وفُرضت السيادة الأردنية على الضفة الغربية والقدس الشرقية، بينما سيطرت مصر على غزة، لكنّ انتصار إسرائيل بعد عقدين من الزمن خلال حرب الستة أيام عاد ووحّد الأراضي ومنح الفلسطينيين فرصة التحرر من السيطرة العربية، مع كل ما يحمله هذا الأمر من سخرية. في الأسبوع الماضي، أطلق الرئيس الفلسطيني محمود عباس حملته الأخيرة في رام الله متحدياً المطالب الأميركية، وقال في الأمم المتحدة: "يجب أن نحصل على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، ونحتاج إلى دولة وإلى مقعد في الأمم المتحدة"، لكن سيتم تجاوز مطلب إقامة الدولة كالعادة، وسيضع الفلسطينيون مصيرهم تحت رحمة الآخرين مجدداً، وهو ما اعتادوا فعله تاريخياً.لكن لو تمعّن الفلسطينيون بتاريخهم، لاستنتجوا أنهم كادوا يحققون أفضل إنجاز لهم في عام 1993 عن طريق المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، لقد كان سلام أوسلو، الذي ضمن لهم الأمن الوطني وأرجع ياسر عرفات من منفاه في تونس إلى غزة، بمنزلة هبة قيّمة نجمت عن الدبلوماسية المباشرة، إذ كان عرفات يسعى إلى تحسين وضعه، فراهن على صدام حسين في حرب الخليج خلال عامي 1990 و1991 وخسر الدعم المالي من الدول النفطية العربية. وكانت إسرائيل من جهتها قد انتخبت لتوها بطل الحرب إسحق رابين رئيساً لها، وقد اتسم هذا الرجل بالرزانة وقوة الإرادة فسعى إلى تنفيذ وعده بـ"إخراج غزة من تل أبيب". صحيح أن احتفال المصالحة في 13 سبتمبر 1993 حصل في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض وكان بيل كلينتون يحث عرفات ورابين على التصافح بعد تردد الطرفين، لكن كشف الأميركيون عن حقيقة الوضع بعد فترة طويلة من رحيل الرجلين. فبعد مرور جيل كامل على تلك المصافحة، لم يتغير الدرس الذي يمكن استخلاصه من ذلك الاتفاق: لا يمكن تجنب جهود المفاوضات المباشرة، وبالتالي، تبقى المداولات الجارية في الأمم المتحدة مجرّد عرض مسرحي من شأنه توليد أوهام جديدة.فؤاد عجمي Fouad ajami
مقالات
الدولة الفلسطينية والدروس المستخلصة من أوسلو
27-09-2011