لم تُنقَل الثورة الليبية التي بدأت منذ ستة أشهر وبلغت ذروتها الآن على شاشات التلفزة عبر الأقمار الاصطناعية فحسب، بل عبر الرسائل النصية أيضاً، فبعد فترة قصيرة من سيطرة الثوار على شركة الاتصالات التابعة للدولة تزامناً مع دخولهم العاصمة طرابلس في 21 أغسطس، أرسلوا رسالة نصية إلى ملايين الناس من مستخدمي الهواتف الخليوية تشمل عبارة "تعيش ليبيا الحرة"، ثم أضافوا ما يساوي 40 دولاراً إلى جميع الحسابات الخليوية وأعادوا تشغيل خدمات الإنترنت في البلاد بعد أن انقطعت في بداية الثورة.

Ad

     في وقت سابق من ذلك اليوم، هرع آلاف المقاتلين من الغرب والجنوب إلى المدينة التي لم تكن محصّنة بما يكفي برفقة فِرَق من القنوات التلفزيونية، فهللت لهم حشود الناس السعيدة. تلقى هؤلاء المساعدة من الثوار الذين كانوا يختبئون في الضواحي، ومن القوات العسكرية التي وصلت عبر البحر، ومن الطائرات الحربية التابعة للحلف الأطلسي. في الساحة الخضراء التي شهدت سابقاً تجمعات حاشدة لا تُعد ولا تُحصى دعماً للنظام القديم، إذ مزّق سكان طرابلس صور الكولونيل معمر القذافي، حاكمهم منذ 42 عاماً وأقدم دكتاتور حاكم في العالم، فأُضيأت سماء بنغازي، عاصمة الثوار في الجزء الساحلي الآخر من البلاد، بالألعاب النارية بينما احتفل مئات آلاف الناس في الشوارع.

لكن لم تنتهِ المعركة نهائياً بعد، فلا تزال القوات الموالية للدكتاتور تقاوم بشراسة وتستعمل أسلحة ثقيلة داخل طرابلس، ويبدو أنها على درجة كافية من التنظيم، وحتى أنها تدّعي أن السماح للثوار بدخول المدينة كان مجرّد مؤامرة، لكنّ هذا التحليل مستبعد، فيسيطر الثوار الآن على أجزاء واسعة من العاصمة، لقد حوصر الكولونيل كلياً وانتهى عهده حتماً.

 في المقابل، يسيطر الموالون له على بلدات قليلة في أنحاء ذلك البلد الذي يضم عدداً متدنياً من السكان، وبمساعدة قوات حلف الأطلسي، يُفترض أن يتمكن الثوار من هزمهم أو التفاوض معهم كي يستسلموا.

معنى النصر

سينعكس سقوط القذافي إيجاباً على الشرق الأوسط والقوى الغربية التي دعمت الثوار، بغض النظر عما إذا كان سيُحاكَم أو يُقتل أو يُنفى في نهاية المطاف. لكن تبقى التداعيات المترتبة على ليبيا نفسها غامضة حتى الآن وهي تتوقف جزئياً على قرار الموالين للقذافي بالاختفاء مع الاحتفاظ بأسلحتهم أو الموافقة على تسليم تلك الأسلحة. يجب أن تتجنب ليبيا ظهور حركة تمرد مشابهة لتلك التي نشأت في العراق ونشوب الخلافات بين الحكام الجدد لو أرادت التحول إلى ديمقراطية فعلية، وهو الهدف الذي أعلنته مختلف جماعات الثوار.

لحسن الحظ، لا تواجه ليبيا أي انقسام طائفي، إذ يُعتبر مجتمعها متجانساً نسبياً لكن تفيض فيه المشاكل والاضطرابات بعد أربعة عقود من القمع، فقد تحصل عمليات قتل انتقامية، فضلاً عن نشوب خلافات قبلية وأعمال نهب واسعة النطاق نظراً إلى غياب الوجود الأمني راهناً.

 يشير سقوط صدام حسين في العراق وحركة طالبان في أفغانستان إلى أن الفراغ الموقت في السلطة قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار على المدى الطويل وإلى إضعاف احتمال قيام دولة فاعلة.

     تبدو انعكاسات تحرر ليبيا على بقية دول العالم العربي أكثر وضوحاً، فالمهم في تلك المنطقة هو واقع الإطاحة بأحد الطغاة، ونتيجةً لذلك، سترتفع معنويات المتظاهرين في سورية التي تشهد بدورها ثورة إصلاحية أخرى، وستتجدد حماسة المصريين والتونسيين الذين أطاحوا بحكامهم الدكتاتوريين منذ بضعة أشهر، بعد أن تخبطوا في معمعة التغيير الدستوري، كذلك، ستضخّ ليبيا زخماً جديداً في مسار ربيع العرب، مع تجديد الآمال في إمكانية انتهاء عقود من الركود والقمع.

سيؤثر الوضع في ليبيا في منظمة حلف شمال الأطلسي أيضاً، وربما توقع الجميع أن يسحق الحلف العسكري الذي واجه الجيش الأحمر القوات الخرقاء التابعة للقذافي خلال أيام، لكنه احتاج عملياً إلى خمسة أشهر من القتال وحوالي 17 ألف عملية جوية، فهل يشكّل هذا الواقع مصدر إحراج بالنسبة إلى الحلف الأطلسي؟ على الإطلاق!

 فقد خاض الحلف حرباً جيدة حتى الآن (من تحدث عن وضع "المراوحة" منذ فترة قصيرة؟) وها هو يحقق أفضل أنواع النصر نسبةً إلى الظروف السائدة: تحقق النصر على يد معظم الليبيين! فقد اقتحم الثوار العاصمة من دون الاستعانة بأي جندي غربي ميدانياً (على الرغم من وجود بعض القوات الخاصة). وساهمت الاعتداءات الجوية التي نفذها الحلف الأطلسي، فضلاً عن الأسلحة التي قدمتها بعض الدول الخليجية الصديقة، في مساعدة الثوار، لكن أدار الثوار وحدهم حرب الخنادق، ما سيمنحهم شرعية إضافية خلال الأشهر المقبلة.

حرب ضمن حدود

تنجم الحملة العسكرية الطويلة في ليبيا عن خطوات تكتيكية اعتمدها الجانبان، إذ نجح الكولونيل في الصمود حتى الآن لأنه يحارب من دون أي ضوابط، على عكس عمليات حلف شمال الأطلسي، فقد قصف الطيارون المواقع بشكل انتقائي، وحرصوا على إحداث حد أدنى من الأضرار، وعلى الرغم مما يقوله داعمو النظام، قُتل عدد محدود من المدنيين بسبب العمليات الجوية. وقد حرص الجنرالات الفرنسيون والبريطانيون الذين قادوا الحملة إلى مصادرة الإمدادات الخاصة بقوات القذافي ونجحوا في إضعافها مع الوقت.

الأهم من ذلك هو أن قوات الحلف الأطلسي تجنبت تجاوز أهداف الحملة الأصلية، وهو مصدر قلق أساسي بالنسبة إلى القوات العسكرية المعاصرة، وحتى الآن، لا وجود لأي دليل على أن قوات التحالف الميدانية ستكرر ما فعلته في أفغانستان حيث أدت حملة جوية ضد طالبان، في عام 2001، إلى سيطرة معارضة هشة ومنقسمة على الوضع، قبل أن تحتاج إلى من ينقذها لاحقاً. قد تحتاج ليبيا إلى قوات حفظ السلام في هذه المرحلة، لكن لم يكلّف أحد بعد قوات الحلف الأطلسي بهذه المهمة.

لقد اكتملت الأهداف الأخلاقية والقانونية لعملية التدخل المحدودة في ليبيا، على عكس ما يقوله بعض النقاد، مع أن هذا الوضع قد يتغير إذا انهار البلد وخضع لسيطرة الثوار وإذا أُجبر الغرب على نشر القوات العسكرية. في شهر مارس، حين هددت القوات الموالية للقذافي بتدمير بنغازي، أنشأت القوى الغربية تحالفاً واسعاً لإنقاذ المدينة، ثم برزت بعض الخلافات الداخلية بين هذه الأطراف، لكن لم ينسحب الأميركيون أو الأوروبيون الشماليون أو الأتراك أو الخليجيون العرب كما كان القذافي يتمنى (وكما فعلوا في العراق). بل عمدت قوات الحلف الأطلسي إلى تطوير خطة عمل جديدة وضرورية.

تُعتبر عملية ليبيا أول حملة يقودها الحلف من دون التدخل الأميركي المباشر، فقد تحمّل الأوروبيون– مع بعض الاستثناءات المعيبة- معظم أعباء الحملة. يمكن اعتبار هذا النهج من العمل، في أفضل الظروف، نموذجاً للعمليات المستقبلية، لكن تنم هذه المقاربة عن عودة سياسة التدخل الليبرالية، وسيتذكر الجميع الدروس المريرة من أحداث كابول وبغداد لفترة طويلة بدل تذكّر الانتصار الذي تحقق في طرابلس.

ماذا سيحصل في المرحلة المقبلة؟ لقد تعاونت أطراف عدة لإسقاط زعيم ليبيا المتغطرس، لكن لا بدّ من فرض تدابير إضافية لتنظيف ما خلّفه، فيتمتع الغرب بخبرة تقنية واسعة، في مجال ترميم البنى التحتية النفطية مثلاً، ويمكن أن ترسل الأمم المتحدة مراقبين لحفظ السلام من أجل طمأنة مناصري القذافي، وعند الاقتضاء، يجب أن توفر الدول العربية الأخرى قوات لحفظ السلام. في غضون ذلك، يمكن أن تجري منظمة حلف الأطلسي تحقيقاً في مسار الحملة الجوية لإثبات أن قنابلها قتلت عدداً محدوداً من المدنيين.

كما حصل خلال الثورة، سيتحمل الليبيون الحمل الأكبر من الآن فصاعداً، فيجب أن تتعلق أولويات الثوار الذين تحولوا إلى حكّام بفرض الأمن من أجل تجنب الفوضى وأعمال النهب، ويجب أن تقضي الخطوة التالية بتشكيل حكومة تمثيلية بمعنى الكلمة، على أن تبدأ بتأسيس منتدى وطني مؤلف من قادة من جميع المناطق لإظهار أن الحكومة ستشمل جميع الفئات. لقد عبّر الثوار عن كل ما كان يجب قوله عن المصالحة، لكن من أجل إثبات أنهم يعنون ما يقولونه وتقليص فرصة قيام ثورة من جانب الموالين للقذافي، يجب أن يدعوا بعض الموالين إلى الانضمام إلى حكومتهم.

في الوقت عينه، يجب أن تُبنى العدالة على تجنب تهميش المقاتلين الثوار الذين ضحوا بالكثير وسيُطلَب منهم قريباً تسليم أسلحتهم الغالية، وفي حال القبض على القذافي حياً، يجب محاكمته في ليبيا أو في المحكمة الجنائية الدولية، وعملياً، من الأفضل تنفيذ الخيار الأول، فكلما تحمل الليبيون مسؤولية أكبر لتحديد مستقبلهم، سيحصلون على مكاسب إضافية.