في تتمة لما بدأناه في مقال الأسبوع الماضي حول استشراف أدب البدون، نمثل في مجال القصة القصيرة بعلي المسعودي ونصه "سيد المحو". ولعل في العنوان ما يوحي منذ البدء بموقف بطل القصة من "وطن" يمحو وجوده ويتسيّد عليه بالاختيال والقسوة. هو الذي ما زال يعيش طفولة مرتعدة أمام خريطة معلقة في الفصل الدراسي، خريطة لم تعطه أمناً أو حلماً صغيراً يعيش عليه.

Ad

وإزاء تلك الضآلة أمام هذا "السيد"، يبدأ اللاوعي برسم صورة لهذا الكائن: "يفتح فمه عن أسنان ذئب شرس... ويلف ذيله حول العنق... ويطارد... ويطلق الرصاص!" إنه "السيد" الذي لن يرعوي عن محو أولئك النابتين في أنحائه وإبادتهم كما تُباد الكائنات القميئة. أليس هو "سيد المحو" كما دعاه الكاتب في عنوان النص؟! أليس هو الذي قدم له الكاتب في مطلع النص: "نصف الحيوان ونصف الإنسان، القوي الجبان، الذي إن كشفتُ عن اسمه أباح دمي". وكيف سيكشف عن اسمه إلا بالكتابة، الأداة المثلى للتعبير عن الانسحاق والضياع: "وقبض على يدي بمخالبه وهو يصرخ بصوت متحشرج: ماذا تفعل؟، قلت: سأكتبك، قال: لن تفعل. كتبته، فمحاني!".

***

أما منى كريم فتنتمي إلى الجيل الأصغر سناً بين الأدباء البدون. من مجموعتها الشعرية "نهارات مغسولة بماء العطش" نختار نصاً لعله الأوضح في رسم حالة الضياع والافتقار إلى الانتماء، وهو بعنوان: "وطن يقلقنا":

أبحث عن وطن متسول/ ينتظرني عند عتبة الباب/ كي يطلب مني أشياء تدفئه

وطن يعوضني جوع الطفولة/ وأيام التشرد/

أذكر كيف كنتُ أمد يدي للأرض/ فتبصقني وتلف كل مدارات الدنيا،/ بحثاً عن كلمة تسقطني

فهل تلومونني عندما أضيع بين زحمة الآلام؟/ كم من الآهات تعبت مني/ غسلت أجسادها بالركام دون جدوى

***

جدتي كانت تقول لي إن الله يحبنا/ حينها أيقنتُ أن الجنة ستمتلئ بالزنابق/ ولكن متى سيحدث ذلك؟

هل عندما تنطفئ الأزقة المقيمة في قلوبنا؟ أم عندما يمزقنا الحنين؟

لمنى كريم مدونة إلكترونية تعلن من خلالها لأنها ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق البدون، ونشر كل ما يتعلق بمطالبات هذه الفئة وأخبار تطورات القضية، بالإضافة إلى مساهماتها في برامج حوارية ومناظرات في أميركا وغيرها حول ذات الموضوع. وهذه مقتطفات من مقالات أدبية لها أثبتتها في المدونة:

"إن دائرتي بلا ملامح، سلمها جدي لنا مشوهة بحماقته وعنتريته وجبن جدتي ورأسها المطأطئة. الدائرة خاصتنا غير صالحة للاستعمال البشري، دائرة: البرانيون/ المولودون خارج رحم الحياة.

لذلك أحاول أن أخلق منك دائرة جديدة علّني أدخل – بالتهريب – إلى الحياة عبر دفع حساب شايك الأخضر، وحل واجباتك، والتحدث بالنيابة عنك، وترتيب أوراقك، ودفعك إلى الابتسام .....

كلها محاولات فاشلة، محاولات تسخر مني لأن المفتاح بكل بساطة بيد المكان، المكان السادي، المكان المستحيل المركز الهامش الذي نسي أن يضعني في صرته حين دخل – بالتهريب – إلى الحياة!

***

"لماذا يصنعون هم تماثيل نحاسية لأصدقائهم، وأصدقائي يذوبون كتماثيل الشمع؟ لماذا يلعبون الكلمات المتقاطعة بآلامنا ونرفع أصابعنا لنمنحهم الإجابة؟ لماذا يكونون هم "أبناء البلد" ونكون نحن "أبناء الكلب"؟ لماذا تنبش أمهاتنا القواميس منذ الصباح بحثاً عن شتيمة، وأمهاتهم يغرقون في لغة أخرى؟ لماذا يقتلون هم الوقت بالثقافة ونقتل نحن يأسنا بها؟ لماذا تعرف الآلة الحاسبة كيف تمنحنا 10 آلام مقابل كل فرحة، ومعهم تضيع الحسبة في عد الأفراح؟ لماذا عرفنا أن الحياة سلم وأمضينا بقية سنينها نعد ما تبقى من الصفر؟

لماذا أولد وتحت إبطي سجل بأخطاء سلالتي ويولدون هم بدفاتر مزركشة؟ لماذا لا أنام كل ليلة لأني أرى الحب نعمة أكبر مني... لماذا أرى العالم من غرفتي ويجولون هم البلاد بحثاً عن ما هو أفضل من غرفهم؟

لماذا لا نكون جميعنا هم... ونبقى نحن بلا وجود؟".

***

• علي المسعودي: حصل على الجنسية القطرية، وربما يعيش هناك أو في الكويت.

• منى كريم: تقيم حالياً في نيويورك - الولايات المتحدة.