بالرغم من كل المحاولات فقد تمكنت من مقاومة إغراء الدخول في الحديث عن حكاية/ فضيحة الضابط القيادي في وزارة الداخلية، وهي الحكاية المثيرة التي لاقت زخماً إعلامياً كبيراً في الصحف، وأكثر من ذلك بكثير عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لكنني اليوم أعود لأقترب من الموضوع، بعدما هدأ شيئاً ما. وسأقترب منه من خلال زوايا أخرى، وجدت أنها غابت عن أذهان الغالبية في الأيام الماضية، ولم تحظَ بكثير من الاهتمام.

Ad

أعود اليوم لأشدد على أنه ليس مهماً عندي "شخصياً" اسم هذا الضابط القيادي، رغم أنه لم يعد خافياً على أحد، بعدما نشرته أغلب الصحف إن لم يكن جميعها، وصدح به المغردون على مدى أيام حتى اختنق "التايم لاين" بتفاصيل الحكاية، الحقيقي منها والمختلق. أقول هذا لأن الأصل في مثل هذه الأمور، وفقاً لأبسط المبادئ الأخلاقية والقانونية، وهي التي طالما شددنا على أهمية الالتزام بها في بلدنا، بلد الديمقراطية والعدالة والبيئة المحافظة كما نكرر دوماً، كائناً مَن كان المتهم، وكائنة ما كانت التهمة، أقول إن الأصل في مثل هذه الأمور هو عدم جواز التشهير وتتبع العورات، وإنها يجب أن تترك ليد السلطات المختصة وللنيابة والقضاء للتعامل معها وفقا للأصول القانونية والعدلية.

ولست أحاول هنا أن أمارس دوراً أخلاقياً مصطنعاً، بل على العكس من ذلك، لأن هذا من أبسط المعايير الأخلاقية والدينية التي يجب أن يتحلى بها الإنسان الذي يحترم نفسه، ولهذا كنت مشدوها وأنا أتابع أسماء أُكِنّ لها التقدير والاحترام وهي تنجرف في هذه "الفتنة"! نعم، أدرك تماماً خلفية هذا الرجل، وعلاقته السيئة بأحداث "ديوان الحربش" الشهيرة، لكن حتى هذا الأمر، على شناعته وبغضي الشديد له، لا يصح أن يَجعل ميزان العدل والأخلاق يختل عندنا، وإلا فما معنى قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"؟!

ما كان يصح أبداً تداول اسم هذا المتهم، ولا أي متهم غيره، بتلك الطريقة التي جرت، حتى لو كانت الجريمة ثابتة في يقين البعض، خصوصاً أن التهمة تحمل بعداً أخلاقياً، فلكل إنسان على سوئه، أسرة وعائلة وأقارب وعشيرة لا ذنب لهم، سيمسهم التجريح والتشهير عندما يجري بهذا الشكل الفج.

الجزئية السابقة، أعني هوية الشخص بعينه، وكما ذكرت سابقاً، لا تهمني. لكن ما يهمني حقاً من كل ما جرى، وربما لا يزال يجري حتى الساعة، هو هذا الفساد العريض الذي انكشف على خلفية هذه القضية داخل المؤسسة الأمنية، وهذا التلكؤ والتردد، ولن أقول التخبط، في التعامل معها بعدما انكشفت!

أن تتردى المؤسسات الخدمية وتضعف وتفسد، فهذا أمر قد نستطيع ابتلاعه على مضض، وصحيح أننا كنا نسمع عن تردٍّ وضعف داخل المؤسسة الأمنية، ولكن أن ينكشف أن الفساد قد وصل فيها إلى هذا الحد حتى اجتاح مفاصلها وعروقها بهذه الطريقة، فهذه كارثة الكوارث.

من البدهي أن الناس عندما تجد الفساد والشر في أي مكان، ستلجأ إلى مؤسسة الأمن وإلى رجاله وحماته، فكيف سيكون الحال اليوم عندما تكون هذه المؤسسة بؤرة للفساد؟!

لنقلّب النظر في التاريخ وأحوال الدول التي سادت ثم بادت، وسنجد غالباً أن انهيارات الدول لطالما قدحت شرارتها عندما بدأ الفساد ينخر في المؤسسات الأمنية، لأن ذلك يكون آخر عهد للناس مع قيمة وهيبة جهاز الأمن وآخر خط كانوا يتوقفون عنده احتراماً للقانون، وآخر عهدهم مع الثقة بالنظام ككل. حين تنهار المؤسسة الأمنية يا سادة، تكون بداية النهاية كما علمنا التاريخ!

وزير الداخلية اليوم أمام تحدٍّ صعب وحقيقي، إما أن يواجهه ليتجاوزه بشجاعة واقتدار، فينظف وزارة الداخلية من هذا الفساد المتراكم فيها عبر سنوات حتى انكشف اليوم برائحة أزكمت الأنوف، فيعيد منظومتها للسير على الجادة الصحيحة، وإما أن ينثني وينكسر عن مواجهته حقاً، ويترك الفساد راتعاً فيها، ولن ينسى له التاريخ ذلك.

كلمة أخيرة يجب أن يدركها النظام قبل أي طرف آخر... إن ضرر المؤسسة الأمنية الفاسدة أفدح ما يكون، وأخطر ما يكون على النظام نفسه، قبل كل الأطراف الأخرى، وإن ترك هذه المؤسسة لتكون نهباً للفساد المستشري فسيكون كمن يدق المسامير في نعشه!