كيف كسبت قطر رهان التحديث؟!
تعيش قطر هذه الأيام أجواء بهيجة تغمرها مظاهر احتفالية ممتدة وغير مسبوقة بيومها الوطني، وتبدو الدوحة وقد لبست أبهى حللها كعروس فرحة وفخورة باليوم المجيد 18 ديسمبر يوم التأسيس التاريخي لدولة قطر سنة 1878، من يسعده الحظ ويزور الدوحة هذه الأيام ينبهر بالمظاهر الاحتفالية التي تعم سماء وأرض قطر، فقد اكتست واجهات المنشآت والمؤسسات والمنازل وعبر الميادين والشوارع وكورنيش الدوحة والسيارات بالأعلام القطرية والزينات والأضواء وصور الأمير وولي العهد، حفظهما الله تعالى، واللوحات الجميلة المعبرة عن الوفاء والولاء والتكاتف.وتجهد الفعاليات المجتمعية الرسمية والشعبية في سباق مع الزمن في إقامة الأنشطة التراثية والشعبية والمسابقات الشعرية والتعبيرية عن تاريخ قطر، وتتنافس القبائل القطرية في إقامة العراضة القطرية في أرجاء قطر المختلفة، كل هذه الاحتفالات تزاوجت في صورة بديعة بين أصالة التراث القطري وروح العصر وتطلعات المستقبل، كما تتنافس المدارس في إقامة المظاهر الاحتفالية المتنوعة بهدف ترسيخ الروح الوطنية في نفوس الناشئة، وما أجمل مشاهد الأطفال في ملابسهم البديعة بلوني العلم القطري الأبيض والعنابي وهم ينشدون بكل براءة وحماسة وفرحة الأناشيد الجميلة!
أما منطقة "سوق واقف" وما أدراك ما "سوق واقف"! فقد تحولت إلى لؤلؤة مضيئة تشع أنوارها في سماء الدوحة، وتجتذب أفواجاً من البشر إلى لياليها التي لا تنسى! وتبدو الأسواق والمحلات التجارية منتعشة بزبائنها وتجهيزاتها للاحتفال، أما الصحف القطرية الأربع: "الوطن" و"الراية" و"الشرق" و"العرب" فقد تضخمت صفحاتها أضعافاً مضاعفة، وناءت بحمل إعلانات وملاحق التهاني و"التبريك" باليوم الوطني.تأتي هذه الاحتفالات الممتدة وبهذه الروح الوطنية العارمة وهذا الإقبال الجماهيري غير المسبوق لتأكيد وتجديد عهدين: الأول: تجديد عهد الوفاء والتخليد لذكرى المؤسس التاريخي الأكبر لدولة قطر، الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني الذي عرف بالعدل والحكمة وببعد النظر وحبه لبني وطنه؛ الأمر الذي مكنّه من جمع كلمتهم ولمّ شملهم، ووضع الأسس والمعالم الأولى لدولة قطر في العصر الحديث.الثاني: تجديد عهد الولاء والتكاتف والمحبة والاعتزاز من قبل الشعب القطري بالقيادة السياسية لصاحب السمو أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، صانع وباني نهضة قطر الحديثة ولسمو ولي العهد الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، والتساؤل المطروح: كيف نجحت قطر في كسب الرهان المستقبلي وفي مواجهة التحديات المختلفة؟ تبدأ مسيرة التحدي وكسب المستقبل بتولي سمو الأمير مقاليد الحكم 1995 وعبر رؤية إصلاحية شاملة من أبرز معالمها على المستوى الداخلي:1- إصلاحات سياسية متدرجة: بإلغاء وزارة الإعلام وإلغاء الرقابة على الصحف وفتح الوسائل الإعلامية كافة للحريات الإعلامية، وإنشاء "الجزيرة" منبراً للحوار الحر وإجراء انتخابات مفتوحة للجنسين لاختيار المجلس البلدي، ثم استفتاء عام على أول دستور قطري دائم يضمن الحقوق والحريات العامة ونظام الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء، ويوسع قاعدة المشاركة الشعبية، ويجعل الشعب مصدراً للسلطات في انتخابات عامة للبرلمان، وقد أعلن سمو الأمير أمام مجلس الشورى أن هذه الانتخابات ستكون في النصف الثاني من عام 2013.2- إصلاحات اقتصادية مدروسة ومتوازنة: تمثلت بتحرير الاقتصاد وتشجيع القطاع غير الحكومي ليقوم بدور رديف في حمل أعباء التنمية، وتوفير بيئة اجتماعية وقانونية جاذبة للاستثمار والسياحة تعتمد الشفافية، وكان من ثمراتها تصدر قطر دول المنطقة في النزاهة والشفافية، كما خطت قطر خطوات هائلة في ميادين الاستثمارات في النفط والغاز والبتروكيماويات مما أهّلها لقيادة سوق الغاز بالمنطقة، كما تضاعف الناتج القومي 16 مرة خلال 15 عاماً مما جعل دخل الفرد القطري الأعلى عالمياً، وتخطط قطر عبر مشاريع عملاقة لأن تكون المركز الأكاديمي والمركز الرياضي والمركز السياحي لمنطقة الشرق الأوسط، كما يعتبر الاقتصاد القطري أحد أكبر 5 أنظمة اقتصادية متزايدة النمو عالمياً. 3- إصلاحات تعليمية متميزة: تقوم على التطوير المستمر للنظام التعليمي بالاعتماد على المناهج الحديثة والتدريب المتطور والاستعانة ببيوت الخبرة العالمية، واعتماد معايير عالمية في تقويم المخرجات والانفتاح على أنماط من التعليم العالي المتميز عبر مؤسسة قطر للتربية والعلوم والتنمية التي تشرف على فروع من الجامعات الأجنبية: كورونيل، فرجينيا كومنولث، كارنيغي ميلون، تكساس، وهناك جامعة قطر والهولندية CHN، وشمال الأطلنطي الكندية مما يوفر فرصاً واسعة أمام الطالب للاختيار، إن تطوير التعليم يحظى بأهمية استثنائية لدى أمير قطر الذي صرح عند افتتاحه المدينة التعليمية 2002 بأن "هذا الحديث يفوق في أهميته أي مشروع اقتصادي أو صناعي"، لكي نكون شركاء فاعلين في النظام التربوي العالمي الجديد.4- إصلاحات اجتماعية منضبطة: تجلت في إنشاء المجلس الأعلى للأسرة، وصدور قانون للأسرة، وتنقيح التشريعات القطرية من التمييز ضد المرأة، وتمكين المرأة القطرية من المناصب القيادية والمشاركة العامة، وكان من ثمراتها وصول أول امرأة قطرية إلى الوزارة على المستوى الخليجي، ولإدارة الجامعة وكلياتها، والقضاء وزيادة مساهمتها في خطط التنمية.إن المرأة القطرية لم تكن شيئاً مذكوراً قبل مجيء سمو الأمير وتوليه مقاليد الحكم، كانت كائناً لا يُرى في المجتمع إلا كظل، ممنوعة من قيادة السيارة، محرومة من المناصب القيادية كافة، لا يسمح بأن تعمل إلا في مدارس البنات، وكان المجتمع القطري المحافظ يتوجس منها وتحكمه مخاوف وهواجس "عفريت الاختلاط" حتى إذا جاء سمو الأمير أشرق فجر عهد جديد على المرأة القطرية. لقد آمنت القيادة بحقوق المرأة، وتبنت سياسة إنصافها وتمكينها من حقوقها المشروعة دينياً وقانونياً وإنسانياً بخطوات محسوبة ومتدرجة تمت فيها تهيئة المجتمع القطري لقبول مشاركة المرأة، وكان لدعم سمو حرم الأمير الشيخة موزة ودورها وجهودها الأثر الأكبر فيما تحقق للمرأة القطرية من مكتسبات تنعم بها اليوم.هذه الإنجازات المتميزة هي بعض النجاحات التي تحققت على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي فقد تحدت قطر بكل شجاعة محدودية السكان والمكان، واستطاعت أن تلعب دوراً قيادياً بارزاً على المستويين الإقليمي والدولي في مجالات حفظ السلام والاستقرار والوساطة الحميدة، وإصلاح ذات البين عبر جهود دؤوبة وتحركات سياسية واسعة، وعلاقات متميزة وزيارات إلى دول العالم المختلفة لخدمة السلام، وحصار الأزمات وإطفاء بؤر النزاع والتوتر والرفاق والمصالحة.ولم يقتصر دور قطر على المساعي الحميدة فحسب، بل كان لها دور بارز في دعم عمليات التنمية وإعادة البناء والإعمار في دول العالم المختلفة، لقد أصبحت قطر بقيادة الأمير رقماً إقليمياً بارزاً في المعادلات الدولية، وصار لها صوت مسموع في الأوساط الدولية المختلفة، يفد إليها رؤساء وزعماء العالم لطلب الرأي والمشورة والتنسيق معها في معالجة الأزمات العالقة، لقد استثمرت قطر هذه المكانة المتميزة وهذه العلاقات الوطيدة بدول العالم لخدمة قضايا الأمتين العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.وقطر اليوم إذ تدعم حقوق الشعوب في بلاد الربيع العربي المطالبة بالعدل والحرية والكرامة، فإنها لا مطمع لها في مغنم سياسي أو مادي، بل انطلاقاً من واجبها الديني والقومي والإنساني في نجدة وإغاثة المظلوم والمضطهد.لقد تغيرت صورة قطر من مجتمع تقليدي عصي على التغيير والتطور والتحديث إلى مجتمع عصري حداثي ديناميكي، لكنه متمسك بأصالته وثوابته الدينية والقومية وهويته العربية، وما فوز قطر بالرهان المونديالي 2022 إلا بمنزلة "شهادة تقدير وتكريم" من المجتمع الدولي لنجاحاتها داخلياً وخارجياً. إن إنجازات القيادة السياسية في خدمة السلام والاستقرار العالميين ومساعي سمو أمير قطر في تدعيم السلام والاستقرار والتنمية يجعلان من جائزة "نوبل" للسلام، تكريماً مستحقاً لأمير قطر.* كاتب قطري