اللون يقترح شكلاً، كما أن الشكل يغوي ألواناً متعددة في لعبة تبادل وتناوب لإبراز المظهر الأخير، لكن الناقص دائماً هو جوهر العمل الفني. في «كراسة كانون» للكاتب العراقي محمد خضير يتوازى منظوران فنيان بالغا الخصوبة والألمعية؛ الأول المنظور السردي على صعيد الكتابة الإبداعية، والثاني المنظور التشكيلي البصري، انطلاقاً من أعمال الفنانين الأوروبيين؛ غويا، وبيكاسو، وهنري مور، إضافة إلى فنانين آخرين من العراق يشكلون خلفية لبعد المكان الذي تدور فيه الحكاية أو الحكايات؛ جواد سليم، فائق حسن مثالاً.

Ad

الراوي يخترق الحكايات كلها، وهو إلى ذلك رسام أنجز مجموعة من التخطيطات الفنية في ضوء قنديل، ذات شتاء بارد. هذه التخطيطات أو رسوم الوجوه، تتراوح بين شفافية حلمية وواقعية تعبيرية، غير أنها تنهض على فكرة ملهمة لغوياً، وعبارته التي تقول: عندما ينام العقل تستيقظ الوحوش. هذه العبارة التي يوردها محمد خضير تقتفي أثر الحرب الأميركية على العراق.

إن الأشكال والمحفورات الفنية التي يدرسها الرسام في أبحاثه تتعانق مع اللحظات التاريخية الكبرى في التراجيديا الإنسانية، احتلال نابليون للعاصمة الإسبانية مدريد عام 1088، فاشية الجنرال فرانكو في لوحة بيكاسو الشهيرة، «جيرنيكا»، إضافة إلى المجسمات والتماثيل الضخمة لهنري مور بعيد الحرب العالمية الثانية، ويمتلك محمد خضير مخيلة ثرية، تشف عبر منظومة سردية جاذبة ذات عناصر غرائبية وساحرة، ويقدم في «كراسة كانون» وفرة من المعلومات ودرساً معرفياً دقيقاً حول الفنانين وأعمالهم، موثقة تاريخياً، بل يذهب إلى توصيف الألوان والخامات وضربات الفرشاة في اللوحات الفنية بموهبة رسام. لكن محمد خضير كاتب يُثير أسئلة غاية في العمق ففي «كراسة كانون» يتساءل الكاتب: متى ينعكس الكاتب في كتاباته كما ينعكس الرسام في رسوماته؟ إني أدع هذا يحدث لي كي أنعكس في شخصياتي، في السطوح المركبة لكتابتي، كي أنقذف معها إلى سطح من سطوح المكعب الواقعي، أختار اللحظة الحاسمة التي أتحد فيها بالوجوه التي أرسمها، أكتبها: «اخترتُ لحظتي، إني هنا وهناك، في الكتابة وخارجها، في كتابتي الآن ومع شخصيات كانون الثاني، قبل عشر سنوات». لا يمكن تلخيص هذه الرواية القصيرة، المكثفة، والقابلة لأكثر من قراءة، غير أنني سأشير إلى أن عبارة غويا الذي أنجز مجموعة من لوحاته الغرافيكية حتى بلغ الثانية والثمانين عاماً من عمره، تلك العبارة ستكون مفتتحاً شديد النقد لاحتلال نابليون بونابارت لمدريد.

يكتب محمد خضير كما لو أنه غارق في حلم، وهذه صفة المبدعين الكبار، مازلتُ أتذكر مجموعته القصصية في «درجة 45 مئوية»، في هذا الكتاب الغرائبي والبورخسي «نسبة إلى الكاتب بورخيس» تظهر قصة احتضار الرسام، ليضيف مشهداً مفارقاً يعود إلى أواخر العهد العثماني، حول محمود أفندي الرسام، وهو كما يشير الكاتب، من رعيل الفنان العراقي عبدالقادر رسام. إنهما اثنان، وربما كانا واحداً عبر المخيلة التي يجترحها الخيال الأكثر جاذبية في جيل الستينيات العراقي والعالم العربي.