يقول شاعر اليونان العظيم قسطنطين كفافيس (1833-1933):

Ad

«ليس هناك يا صديقي أرض جديدة،

ولا بحر جديد

ستتبعك المدينة».

يظن البعض، من الأخوة العرب أو الآخر غير العربي، أن مجيء فصل الصيف يعني هجرة الكويتيين وعموم الخليجيين بداعي السفر إلى بقاع الله الواسعة، وخلو بلدان الخليج من أهلها. وإذا كانت هذه الصورة تحمل جزءاً صغيراً من الحقيقة، فإن المؤكد هو أنها لا تقول الحقيقة كاملة مثلما هي على أرض الواقع الحي، فأهل الكويت والخليج يعرفون أكثر من غيرهم أن شهور الصيف القاسية في حرارتها المرتفعة ورطوبتها وغبارها، والمقترنة بإجازة المدارس والمعاهد والجامعات، تجعل السفر خياراً مبذولاً ومغرياً، لكنهم أيضاً يدركون تماماً أن فرصة ومتعة السفر لا تتاح للجميع، بسبب تكاليفها الباهظة، وأن سفر البعض لا يتجاوز الأسبوعين، بينما يمتد الأمر بالبعض الآخر ليكون شهراً، ونسبة قليلة أولئك الذين، يتيح لهم ظرفهم المادي، التمتع بإجازة طويلة، وقضاء كامل أشهر الصيف خارج البلاد.

نعم البعض في الكويت، وغير الكويت يسافر، وكل شعوب العالم تسافر، ولكن ليس كل سفر سفراً، وليس كل ابتعاد بعداً يتمناه القلب، وليت البعد يأتي مصحوباً بالابتعاد!

أي تقدم تكنولوجي يولد مستحضراً حسناته، لكنه يجيء حاملاً سلبياته، وهذا ينطبق تماماً على زمن نحياه اختصر المسافات، وسهّل الانتقال في المكان، وجعل، عن طريق ثورة الاتصال والمعلومات، من الحدث المحلي والعالمي مشهداً حاضراً، يمكن الوصول إليه بكل سهولة ويسر في كل مكان من العالم، عبر القنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت، وأخيراً عبر الهاتف المحمول، التي تؤمن اتصالاً سهلاً بالأهل والبلد، ونقل صورة حية لما يجري فيهما.

إن ابتعاداً في المكان والبيئة، لا يضمن هروباً وتخلصاً من همومهما، لذا يصحّ قول الشاعر كفافيس: ليس هناك أرضٌ جديدة، ولا بحرٌ جديد، وأن المدينة/الوطن، الأهل والأحداث ستتبعك، وستظل تحيط بك، تؤلم رأسك وقلبك وفكرك. ولكن هل من حيلة نحتال بها فنعيش أيام سفر، لا يمر بها إلا حدث السفر، ولحظات متعة تنعش القلب، وتكون زاداً لأيام طويلة ستأتي بعدها.

إن من يريد سفراً، فعليه أن يطوّع نفسه بأن يبقى في البعد ولو بضعة أيام. فوصل لا ينقطع عبر الهاتف والفيس بوك والتويتر، بما يحدث في محيط الأهل والوطن، يعني انتقالاً بالجسد إلى مكان مختلف، وبقاء الروح والعقل متصلة ومعلقة بمحل الإقامة، وهذا ما يتعارض مع الهدف من السفر.

في السفر الحقيقي، فائدة ومتعة كبيرتان، وهو بعد عن اليومي والروتيني المعتاد، ومعايشة تجربة جديدة، وتنفس هواء جديد، والاطلاع على خبرة حياة جديدة، ومنظر جديد، وكلمة جديدة، ولحن جديد. وهو قبل هذا وذلك، نية صادقة، في البعد ولو لأيام عن تفاصيل هموم يومية لا تنتهي، وحياة متكررة يكاد يومها الراهن يشابه أمسها، ويكاد غدها الموعود يكون صورة عن يومها الراهن. وليس من منقذ يكسر رتابتها، غير وصل حقيقي بتجربة ومكان ووقت ورطانة مغايرة ومختلفة.

دع عنك وصلاً، تعرف مقدماً أنه لن يخبرك بجديد، وعش مسافراً محلّقاً، يأنس بشكل مختلف مع نفسه وأسرته وأصدقائه، ويجعل من تذوق الجديد مبدأ، يريح القلب ويشحن بطارية الروح، لتُعاود الكد والجهد متى عادت لوطنها ومآل قلبها.

السفر سفر في القلب والفكر، قبل أن يكون انتقالاً في المكان والزمان. ولمن يصعب عليه أن يرمي خلف ظهره بهمومه وأفكاره ومشاريعه وخططه، أن يتذكر أن اللحظة الإنسانية عابرة، وأن لحظة تمر لا يمكن أن تعود، وربما هذه وحدها تستحق منا أن نعيش كل لحظة بمذاقها الخاص وطعمها الحريف.