من تركيا إلى الجيش المصري
لطالما كانت تركيا مصدر إلهام لبعض قوى الإسلام السياسي في مصر، التي أرادت أن تطرح على المجال العام في بلادها رؤية للإصلاح والتطور، تهدئ المخاوف إزاء موضوع الدولة الدينية، وتبعد عن الأنظار نماذج الصومال والسودان وإيران وأفغانستان، التي أساءت كثيراً إلى صورة "الأنظمة الإسلامية"، وساوت بينها وبين الضعف والتخلف والانقسام لدى الرأي العام الإقليمي والدولي.ولاحقا باتت دولة الخلافة العثمانية أنموذجاً "مبهراً" لقطاع من المصريين كبير، ليس فقط في مجال السياحة والانتعاش الاقتصادي ومتانة مؤسسات الدولة ونجاعة الخدمات العامة والتفوق الفني والدرامي، ولكن أيضاً في مجال العلاقات مع إسرائيل.
منذ صعود نجم رجب طيب أردوغان في السياسة التركية، والعلاقات بين بلاده والدولة العبرية تتخذ مساراً سلبياً، خصوصاً بعدما دخل مشادة حادة مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، في منتدى دافوس، مطلع عام 2009، منتقداً بشدة "استخدام إسرائيل المفرط للقوة تجاه أطفال غزة".كنت أحد الذين دعوا إلى التأني في تقييم مدى اتساق خطاب أردوغان آنذاك مع طبيعة العلاقات الإسرائيلية- التركية على الأرض، بالنظر إلى متانة تلك العلاقات وتشعبها تشعباً كبيراً في مجالات شتى، مفضلاً الانتظار حتى تصدر قرارات ملموسة من أنقرة تعيد صياغة تلك العلاقات بشكل أكثر انسجاماً مع تصريحات الساسة الأتراك في شأنها.لقد كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في عام 1949، ومنذ ذلك التاريخ والدولتان ترتبطان بعلاقات يمكن تصنيفها ببساطة بأنها «استراتيجية نوعية تتمتع بالاستدامة والتجدد والتطوير». وارتبطت تل أبيب باتفاق للتعاون العسكري والأمني والاستراتيجي مع أنقرة منذ عام 1996، ينص، فيما ينص، على السماح للطائرات العسكرية الإسرائيلية بالتدريب في المطارات والأجواء التركية، وإجراء المناورات المشتركة، وبرامج للتصنيع الحربي، وتعاون في مجال صيانة الطائرات المقاتلة وتصنيع أجزاء منها.وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 3.4 مليارات دولار في عام 2010، بزيادة بلغت الثلث تقريباً مقارنة بالعام السابق عليه 2009، وهو الرقم الذي جعل إسرائيل تحتل المرتبة الثامنة على لائحة الدول الأكثر تبادلاً تجارياً مع الدولة العبرية.وتسجل صفقات الأسلحة التي تستوردها إسرائيل سنويا من تركيا نحو 1.5 مليار دولار، تشكل أحد مجالات التعاون الاستراتيجي الرفيع، الذي يسمح للدولتين بتبادل المعلومات الاستخباراتية في شأن «دول معادية»، وهو الاتفاق الذي تم تدشينه في الخمسينيات من القرن الفائت، وظل فعالاً حيث ظهرت مفاعيله في التعاون ضد عمليات حزب العمال الكردستاني التي استهدفت أنقرة، كما ظهرت في الضغط على سورية وفي تقديم المعلومات الاستخبارية الخاصة بالأوضاع في لبنان. وبالطبع فإن البلدين مرتبطان باتفاق للتجارة الحرة، وبحثا في مشروع لبيع المياه التركية لإسرائيل، وكانا نسقا تنسيقا رفيعا مع الولايات المتحدة أثناء فرض الحصار على العراق، قبل إتاحة الأجواء والقواعد العسكرية التركية لعملية الغزو ذاتها. كان مسار العلاقات الثنائية بين إسرائيل وتركيا على مدى سنوات حكم حزب العدالة والتنمية يكشف تناقضاً واضحاً بين خطاب سياسي تركي يؤكد الحقوق الفلسطينية، ويشجب بشدة التجاوزات الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني من جهة، وبين توسع وتقدم واضحين في "العلاقات الاستراتيجية" التي تربط الدولتين الحليفتين من جهة أخرى. وحتى عندما وقع التطور المفصلي في العلاقات بين الدولتين في مايو من العام الماضي 2010، حينما قتلت وحدات كوماندز تابعة للبحرية الإسرائيلية تسعة ناشطين أتراك في اعتدائها على السفينة "مافي مرمرة" ضمن "أسطول الحرية" الذي استهدف كسر الحصار على غزة، لم يبد أن أنقرة اتخذت القرارات الصعبة حيال حليفتها العنيدة، التي أبت آنذاك أن تتقدم باعتذار لتخفيف وطأة الحدث، وإيقاف تداعياته السلبية على العلاقات الثنائية.كان سلوك أنقرة المستهجن والرافض بشدة للتصرف الإسرائيلي دافعاً للرأي العام الإقليمي والدولي لينتظر قراراً صعباً منها يتسق مع التصعيد الشديد الذي بدأ في دافوس مطلع عام 2009، لكن هذا الموقف تأخر كثيراً في انتظار التقرير الدولي عن الحادث. لا يبدو أن أردوغان كان في حاجة فعلاً لصدور تسريبات حول التقرير الدولي عن حادث "أسطول الحرية"، لكن الأرجح أنه كان يعرف ما يجب فعله في هذا الملف وينتظر الوقت المناسب للقيام به، وهذا الوقت لم يكن سوى تقليص نفوذ العسكر في السلطة في بلاده، واحتواء تمردهم وتسكين الهواجس إزاء احتمال قيامهم بانقلاب عسكري جديد ضد الحكومة.كان العسكر الأتراك إذن يعارضون أي تطور سلبي في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، بشكل يحد من عائدات تلك العلاقات الاستراتيجية، وربما أنهم أعاقوا الخطوات التي أراد أردوغان القيام بها لمعاقبة إسرائيل على استخدام القوة المفرطة بحق أبناء غزة، قبل أن تُسيل الدم التركي في البحر المتوسط، وتُبدي صلفاً شديداً يمنعها من الاعتذار عن تلك الجريمة.في يوليو الماضي، نفذ أردوغان ورجال حزبه ما أطلق عليه آنذاك "انقلاب المدنيين على العسكر"، حيث ظهر في صورة اجتماع مجلس الوزراء متصدراً الطاولة وحده، على عكس كل الاجتماعات السابقة، التي كان يتقاسم رئيس الوزراء فيها صدارة الطاولة مع رئيس هيئة الأركان.يبدو بالفعل أن الأوضاع تتجه نحو استئثار رئيس الوزراء المدني أردوغان، ومن ورائه حزبه الذي يحظى بأكثرية البرلمان، بالسلطة، التي مكنته من تنفيذ توجهاته إزاء السياسات مع إسرائيل، بعدما قلص من سلطة العسكر تقليصاً شديداً.أمس الأول الجمعة، أعلن وزير الخارجية أحمد داود أوغلو طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي لبلاده في تل أبيب إلى مستوى "سكرتير ثاني"، بما يعني سحب السفير التركي وكبار أعضاء سفارته، وهو تطور سياسي بليغ. لكن ثمة تطوراً لا يقل أهمية أعلنه أوغلو على صعيد العلاقات الثنائية بين الدولتين، إذ أكد أن بلاده علقت "الاتفاقيات العسكرية" التي تربطها بالدولة العبرية. سيكون للقرار التركي الأخير تداعيات كبرى ومؤثرة في مجالات شتى للسياسة الأمنية الإقليمية والدولية، كما ستكون له انعكاسات على الداخل التركي، وعلى القضية الفلسطينية تحديداً، لكن أحد تأثيراته الكبيرة سيظهر بوضوح في العلاقات المصرية- الإسرائيلية. يضغط مصريون غاضبون من شتى الفئات على السلطة العسكرية المؤقتة في مصر لاتخاذ قرارات صعبة بحق العلاقات مع إسرائيل، بعد قتل تلك الأخيرة خمسة من رجال الأمن المصريين الشهر الماضي، ورفضها تقديم اعتذار مرض في المقابل أو تعويض ذوي الضحايا.سيتعرض المجلس العسكري المصري لضغوط كبيرة من الشارع الثائر، الذي بات يعرف طريقه للتأثير في صانع القرار، وستتعزز تلك الضغوط بالموقف التركي الأخير، وهو أمر قد يقود العلاقات المصرية- الإسرائيلية لمسار غير متوقع، وقد يعيد صياغتها على نحو لم يكن يتخيله أحد على مدى ثلاثة عقود خلت تحت حكم مبارك.* كاتب مصري