تصنيع الإرهاب
عندما لا يقوى الفاعل على تبرير الفعل وتسويقه بل إقناع النحو والصرف بضرورته... فعندها يلجأ إلى تصنيع جمل فعلية مبنية للمجهول تخفي الفاعل وتكسر المفعول به (إن لم تقتله)، وينجو الفاعل على حد زعمه من عملية الإعراب دون اعتلال أو استفهام وحتى من أي تأثير للضمير في واقع الحال. الإرهاب صناعة كأي مهنة لها أدواتها ومهاراتها الخاصة في الصنعة والتسويق، والتي احترفتها بامتياز أنظمة الاستبداد، وأضحت المكان الأبرز للتصنيع ولتعليم هذه المهنة، وذلك منذ صعودها غير الشرعي للسلطة، وطورتها بشكل يضمن لها الاستمرارية وحق ملكية الأوطان؛ مع حق السيادة بالفعل مهما بلغت نسبة تغولها في معالجة الاحتقانات. الحرب الدولية على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أفرغت جعبة الأنظمة من المعلومات نتيجة التعاون المفرط مع الـ"سي آي إيه"، ولم يعد لديها ما تقدمه لتبرير شرعيتها مما أصابها بالحرج لعدم أهليتها في التعاون... فلجأت إلى تصنيع الإرهاب في ورشها الأمنية، فأحضرت كل أدواتها وتقمصت أجهزتها دور جماعات التطرف والإرهاب بالشكل والمضمون، فنثرت الرعب في البلاد من تفخيخ واغتيال وتهديد ووعيد. فكان المد والجزر في رد الفعل الدولي تجاهها، ولكن الأهم أن الخبرات تراكمت لديها، وأضحى لديها جيش محترف من "الشبيحة" ينحدر من أصول إجرامية والذين وجدوا لهم، في ظل رعاية السلطة، دوراً ما يلعبونه ويحظى بالتقدير حتى أصبحوا رقماً مهماً في معادلة السلطة وديمومتها. وهذا ما يفسر تلك الدموية المفرطة في معالجة الأزمة السورية حيث يتصدر "الشبيحة" المشهد على أنهم تارة عصابات مسلحة، وتارة معارضة مسلحة، وتارة يفجرون باسم "الجيش الحر"، وهذه الأدوار هي المرحلة الأخطر في تصنيع الإرهاب باعتباره (إرهاب الدولة)، وهذا يضع الشارع أمام خيارين أحلاهما مر: إما طلب التدخل الدولي العسكري- إن توافر- وإما العسكرة دفاعاً عن النفس وإما كلاهما معاً... مما ينذر بالانزلاق إلى الفوضى والتي ستنتج بالضرورة تشظياً يصعب جمعه ويصعب ترميم آثاره المستقبلية. الشعور القومي والمقاوم لدى الشعب السوري جعله يعض على الجرح ويحتمل كل أثقال الفساد والاستبداد الإيديولوجي منه والمصنع على أمل استمرار الصمود وبعده التحرير، مما أوحى إلى النظام بأنه يحكم شعباً خالي الدسم والقيم، وأيضا محدود التأثير وقابلا للتشكيل وفق الحاجة، وهذه الذهنية ظلت معتمدة رسمياً رغم شدة الحراك الحالي وامتداده الأفقي مما يصعب معها أي حل لأن التغيير حالة ثورية لا تقبل أنصاف الحلول... ومن تنسم "آذار" (مارس) الحرية والكرامة يصعب عليه العودة لـ"آذار" الاستبداد والمؤامرة. الربيع العربي ليس حالة ثورية فحسب إنما المحطة الأهم لمكافحة الإرهاب والتطرف واقتلاع جذوره بعيداً عن مسرحيات الإرهاب الهزلية والمصنعة في الورش الأمنية للأنظمة والتي استخدمتها لتأمين المشروعية ولتوثيق صك البراءة الدوليين، والأهم عدم توجيه التهم لهذه الأنظمة باعتبارها الأرضية الخصبة لإنتاج وتفريخ الإرهاب استناداً إلى الثقافة السائدة القائمة على السد والانسداد... وأكاد أجزم أن الربيع العربي سيجعل المنطقة العربية مع الوقت أكثر تنمية ورخاء بل العالم كله أكثر أمناً... وهذا يتطلب إدراكاً دولياً بأن مساندة الحريات والتنمية في منطقتنا الأكثر ربحية من الإنفاق على مكافحة الإرهاب في ظل أنظمة تصنعه وتنتجه وتصدره، وتعتمده كجهة حليفة لمكافحته.