المارد السلفي يخرج من القمقم

نشر في 04-07-2011
آخر تحديث 04-07-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. عبدالحميد الأنصاري أصبح التيار السلفي اليوم في مناخ الحريات الجديد منغمساً في العمل السياسي، يقوم بالمظاهرات ويقود الاحتجاجات وقد شكل أخيراً حزبين سياسيين مفتوحين حتى للأقباط هما: النور والبناء والتنمية. وأخيراً فإن أطرف ما قام به شباب التيار السلفي هو حملتهم على «الفيسبوك» لإطلاق «مليون لحية» قبل رمضان القادم!

ثورة 25 يناير المصرية أخرجت المارد السلفي من القمقم الذي كان محتجزاً فيه على امتداد النظام السابق، فما إن تحرر من قيده وأبصر نور الحرية وتنسم هواءها حتى انطلق في كامل عنفوانه يصول ويجول ويعربد في طول البلاد وعرضها.

اليوم بعد مرور 5 أشهر على الثورة المصرية و6 أشهر على التونسية مازال الربيع العربي يواجه تحديات كبيرة، الأوضاع الاقتصادية والأمنية متردية وأكثر سوءاً من قبل، والغلاء يطحن الناس والمخاوف من التيارات المتشددة تتصاعد وتتسع، وكما انقسم التونسيون بشأن ثورتهم بين محبط ومتفائل كذلك الحال في مصر فإن زهوة المصريين بثورتهم تراجعت بظهور القوى السلفية للنور، وبخاصة المسيحيين الذين لديهم مخاوف حقيقية منهم جعلت بعضهم يبحث عن فرصة للهجرة خارج مصر.

فأقباط مصر يعيشون حال التوجس هذه الأيام أمام تصاعد نفوذ التيار السلفي المتشدد وتهديداته، استغل مناخ الحرية الجديد وأثار الرعب في النفوس، وأقاموا الحد على مواطن مسيحي بجنوب البلاد وقطعوا أذنه، واحتفل الداعية السلفي محمد حسين يعقوب بنتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية وسماها "غزوة الصناديق"، معلناً أن الإسلام قد انتصر، ومن لا يرضى به أساساً للحكم فعليه أن يرحل!

قاد التيار السلفي العديد من المظاهرات للتنديد بالكنيسة والبابا بزعم أنه يحتجز كاميليا شحادة ووفاء قسطنطين؛ لأنهما أعلنتا الإسلام وحاولوا اقتحام الكنيسة لتحرير الأسيرة المسلمة كاميليا رغم ظهورها الإعلامي وتأكيدها أنها مسيحية! كما ادعوا ومعهم رموز إخوانية أن الكنائس تحولت إلى حصون عسكرية مسلحة وأن الكنيسة أصبحت دولة داخل دولة لأن النظام السابق تغاضى عن تجاوزاتهم ودللهم.

مشايخ التشدد- عبر الخطب التحريضية والقنوات الفضائية السلفية والمواقع المتطرفة- دفعوا أتباعهم إلى إحراق كنائس وتفجير أخرى ومواجهات دموية بين المسلمين والمسيحيين سقط فيها المئات من القتلى والجرحى من الجانبين؛ مما دفع آلاف المسحيين إلى الاعتصام أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون محتجين على تقاعس الأمن ومطالبين المجلس الأعلى للجيش بحمايتهم وحماية كنائسهم وتحرك المجتمع الدولي مديناً أعمال العنف ومطالباً بحماية حرية العقيدة ومعاقبة المعتدين، وتصاعدت المخاوف من اتساع نطاق المواجهات الطائفية.

وعكست الصحف المصرية في تلك الفترة هذه المخاوف تحت عناوين "مصر في خطر" و"التطرف يحرق الثورة" و"نار إمبابة تحرق قلب مصر"، وتحرك المجلس العسكري واتخذ إجراءات أمنية مشددة وسارع عقلاء القوم وعلى رأسهم فضيلة شيخ الأزهر د.أحمد الطيب ووزير الأوقاف د.محمود زقزوق ومفتي مصر د.علي جمعة إلى العديد من المبادرات والزيارات التوفيقية وعبر الحملات الإلكترونية التي قادها الداعية عمرو خالد لاحتواء الفتنة ونزع فتيلها وتهدئة النفوس.

وتحرك الأزهر الشريف- قلعة التسامح الديني ومنار الاعتدال في العالم الإسلامي- ليعلن أن المسلمين مطالبون بحماية المسيحيين وكنائسهم، وأن الاعتداء عليهم اعتداء على المسلمين، واعتبروا تطبيق الحد بواسطة جماعة دينية "بلطجة" ومخالفة صريحة للإسلام، وأعلن مفتي مصر أن السلفيين الذين روعوا مصر لا يمتون للسلف الصالح بأي حال، بل هم متنطعون، وقد حذر الرسول- صلى الله عليه وسلم- منهم بقوله "هلك المتنطعون".

وكان السلفيون استولوا على منبر جامع "النور"، ومنعوا خطيب المسجد من إلقاء خطب الجمعة، وتظاهروا لإقالة المفتي على خلفية فتواه بمنع النقاب في لجان الامتحانات بالجامعات، ومصداقاً لقوله تعالى "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"، فإن هذا المخاض الطائفي الأليم أثمر عدة ثمار مهمة أبرزها:

1- وثيقة الأزهر الجديدة في تأكيد شرعية الدولة المدنية الحديثة ذات المرجعية الإسلامية، وتأتي أهمية هذه الوثيقة- طبقاً لمشاري الذايدي- من أمرين:

أ- مجيؤها في وقت صعب تمر فيه مصر، يبرز فيه الإسلاميون على المسرح السياسي ودخولهم في صلب عملية كتابة الدستور المصري الجديد وذعر التيارات الليبرالية وقوى الشباب الحديثة والأقباط منهم.

ب- كون عرابها هوالشيخ أحمد الطيب الذي هو امتداد طبيعي لثقافة شيوخ الأزهر بدءاً برائد الإصلاح الديني الإمام محمد عبده، نقتبس منها هذه النص الرائع "الإسلام ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية".

والجدير بالذكر أن الوثيقة تتزامن مع مشروع الدستور المغربي الجديد لتأسيس دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، والذي صوت عليه المغاربة في 1/7 ب" نعم" كاسحة.

2- صدور مشروع قانون دور العبادة الموحد لأول مرة وطرحه للنقاش المجتمعي، وهو أمر شديد الأهمية طبقاً لصلاح عيسى الذي يقول إن لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس الشعب 1972م طالبت بإصدار هذا القانون في أعقاب حرق أول كنيسة في مدينة الخانكة، ولأن القانون لم يصدر، فقد استمر مسلسل الاحتكاكات الطائفة بسبب لجوء المسيحيين- في مواجهة التعقيدات البيروقراطية والعقبات التي توضع أمام بناء أو إصلاح الكنائس- إلى تحويل بعض البيوت إلى كنائس للصلاة لتصبح بعد ذلك هدفاً لاعتداء المتشددين من المسلمين، وصحيح أن المسيحيين لهم تحفظاتهم على المشروع إلا أن صدوره أمر إيجابي.

3- إعلان نشطاء حملة الـ"15 مليون توقيع" التي ترفع شعار "الدستور أولاً" حصولهم على 5 ملايين توقيع، وقد دعوا إلى مليونية جديدة في 8/7 لإنقاذ ثورة 25 يناير، وتأتي هذه الدعوة في أعقاب الاستطلاعات ومنها استطلاع "الجزيرة مباشر" الذي كشف عن أن الأحزاب الدينية ستحظى بأغلبية الأصوات في الانتخابات البرلمانية سبتمبر القادم، إذ جاء حزب "النور" السلفي في المرتبة الأولى بنسبة 37% يليه حزب "العدالة والحرية" الإخواني، على عكس الأحزاب الليبرالية التي جاءت في المراكز الأخيرة مما سيمكن للإسلاميين أن يشكلوا الأغلبية في البرلمان القادم، ويتيح لهم صياغة الدستور المصري الجديد بحسب توجهاتهم السياسية، الأمر الذي يعرض القوى السياسية الأخرى لمصير مجهول، وبخاصة أن القوى السياسية من الليبرالليين واليساريين وغيرهم هم في قفص الاتهام من قبل السلفيين الذين يصمون "الليبرالية" بالكفر والإلحاد طبقاً لما أكده متحدثهم د. الشحات!

ولذلك يكثر الجدل السياسي هذه الأيام حول 3 خيارات:

أ- تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية إلى موعد لاحق عندما تستقر الأوضاع الأمنية والسياسية.

ب- الشروع فوراً في كتابة دستور جديد قبل الانتخابات عبر توافق مجتمعي شامل وليس عن طريق لجنة خاصة ينتخبها البرلمان القادم.

ج- فكرة وضع "مبادئ فوق دستورية" عبر التوافق المجتمعي الشامل، وذلك كحل وسط، لكن الإسلاميين يرفضون هذه الخيارات ومازال المجلس الحاكم يؤكد إجراء الانتخابات في موعدها.

4- تطور التيار السلفي الذي لم يكن له شأن بالعمل السياسي، وكان يحرم الخروج والمظاهرات بحجة نقضها حق السمع والطاعة لولي الأمر ولو كان ظالماً، وحرم تشكيل الأحزاب السياسية، وكان منشغلاً بالعمل الدعوي في محاربة البدع والشركيات والتصوف وعبادة القبور والتوسل بالأولياء وفرض النقاب وتحريم إسبال الثياب... إلخ. أصبح اليوم في مناخ الحريات الجديد منغمساً في العمل السياسي، يقوم بالمظاهرات ويقود الاحتجاجات وقد شكل أخيراً حزبين سياسيين مفتوحين حتى للأقباط هما: النور والبناء والتنمية. وأخيراً فإن أطرف ما قام به شباب التيار السلفي هو حملتهم على "الفيسبوك" لإطلاق "مليون لحية" قبل رمضان القادم!

* كاتب قطري

back to top