العراق آخر من يعلم!

نشر في 08-03-2012
آخر تحديث 08-03-2012 | 00:01
No Image Caption
 فوزي كريم فران هيزلتون سيدة إنكليزية مأخوذة بالأدب السومري. أسست جمعية لهذا المسعى بعنوان "إنهدْوانا" (وهو اسم أول شاعرة أكدية، وابنة الملك سرجون الأكدي الشهير)، وأصدرت كتباً. قبل أسبوع دعتني للحديث عن "ملحمة جلجامش" في قاعة "بيت السلام" حديثة النشاط، في لندن.

والحديث عن الملحمة الشعرية، شأن الاهتمام العالمي بها، لا حدود له. الكتب الأجنبية التي رعتها بالترجمة والدراسة تجاوزت الألف والخمسمئة في دليل google. على أن هذا الموقع يفتح لك أكثر من عشرة ملايين مدخل، تتوزع على اهتمامات شتى تبدأ بالترجمة ولا تنتهي بالمسرح والموسيقى. ووسط هذا البحر المحيط كان زورقي يكتفي بخليج بالغ الهدوء، يقتصر على طبيعة اهتمامي الشخصي كشاعر، ورغبتي في أن أكتب قصيدة تحت ظل هذه القصيدة العراقية الخالدة. حديثي حرص على أن يبقى في هذا المدار: سحر القِدم، سحر الحكاية، سحر المحاور الكبرى التي تطرحها، والعناية الشعرية بالأسئلة الكبرى التي تشغل الإنسان، سحر الدلالة العميقة التي تشف عبر كل شخصية فيها وكل حدث. سحر صلاحيتها الشعرية لكل عصر.

اؤمن دائماً بضرورة أن يظل الشاعر الحقيقي تحت ظل الشعر الذي سبقه. ظل الشعر المحلي، والآخر العالمي الواسع. الشاعر الذي يسعى تحت وهم "البكورية" والانطلاق من نقطة الصفر في مخيلته شاعر مرحلي، سريع الزوال. حتى "جلجامش" المبكرة جداً كانت تراتيل تنشدها الجماعة في المعبد، وتعكس بالضرورة أصوات التراتيل التي سبقتها. وبهذا القصد أشدد بأنني أحاول كتابة قصيدة تحت ظلهذه القصيدة. تحت الظل الكثيف لهذه القصيدة، لأنها تنفرد بها وحدها، لتنتفع من حكايتها وطاقتها الرمزية.

حين اكتشف الانكليزي جورج سميث لغة الألواح الطينية عام 1872، داخل أقبية المتحف البريطاني، كان يعرف أن شعاع هذا النص الملحمي لن يضيء حقائق الماضي التاريخية وحدها، بل سيتسع لوعي الانسان بذاته، وللمخيلة المبدعة فيه. فإذا كانت قصة الطوفان رابضة هناك بتفاصيلها، فإن خلق أنكيدو من طين وإغواء شامات (أو شمخة) يشفّ بقوة عن صورة أبينا آدم وأمنا المُغوية حواء. وأن غلبة جلجامش لعشتار يوحي بلحظة انتقال التاريخ من سيادة الأمومة لسيادة الأب. والعلاقة العاطفية المثيرة بين جلجامش وأنكيدو يعطي بضعة مفاتيح نافعة لعلم النفس. وانتقال أنكيدو من الحياة الخام مع الحيوان في البراري، تحت تأثير شامات، إلى الحياة المدينية يكشف عن أولى لحظات يقظة العقل والإدراك الانساني.دعك عن الأسرار الإنسانية الكامنة في طبيعة أنكيدو الأرضية، وقد خُلق من طين، وطبيعة جلجامش نصف الأرضية، وفي معنى المسعى الباطل للخلود، وحكمة ان يلتزم الإنسان القناعة بفعله وإنجازه.

قبل فترة شاهدت في التلفزيون البريطاني برنامجاً أعده الشاعر سيمون آرميتاج يلاحق فيه رحلة يوليسيس البحرية المحفوفة بالمخاطر من طروادة التي دمرها اليونانيون في حربهم الشهيرة إلى إيثاكا. وكنت أُمني النفس بمشاهدة عمل كهذا يلاحق فيه أحدُنا رحلة جلجامش الأرضية المحفوفة بالمخاطر من مدينته أوروك إلى عالم الخالدين حيث يلتقي أوتنابشتم. وإذا كانت هذه الرحلة خيالية محضة، فإن رحلته مع أنكيدو من أوروك إلى غابة الأرز لا بد أن تنطوي على حقائق جغرافية، خاصة وأنه كان يطمع، بعد القضاء على الوحش هامبابا حارس الغابة، بقطع أشجار الأرز للانتفاع بها في بناء أسوار أوروك. ووسيلة إرسالها إلى مدينته لا تتم إلا عبر نهر الفرات. فأين كانت غابة الأرز في أعالي هذا النهر يا تُرى؟

الفنانة البرازيلية آنا ماريا باشيكو (سبق أن كتبت عن أحد معارضها النحتية في هذه الصفحة)، وهي صديقة مُقربة، حين أخبرتها عن القصيدة التي أكتب استثير حماسها الفني حول جلجامش، واقترحت مشروعاً مشتركاً من الشعر والرسم، يُعرض على الناس، ويصدر في كتاب.

المتحف البريطاني استجاب لمقترح تقدم به الفنان يوسف الناصر (صاحب آرك غاليري) لإقامة معرض ضخم، احتفاءً واستعادة لجلجامش. ولكن الأمر متوقف على البحث عن تمويل مالي.

حكومة العراق آخر من يعلم. وأول من لا يعلم!

back to top