الجيل الذي كُتب له أن يعيش الهزيمة الكبرى للأنظمة العربية عام 1967، عاش حاملاً مرارة وخزي ووجع تلك الهزيمة في قلبه. ومن كان مفكراً أو كاتباً أو فناناً عبر عن ذلك الخزي وتلك المرارة بصيغة أو بأخرى. جلبت الهزيمة أدباً وفناً يحملان ملامحها، وها هي الشعوب العربية تعيش اليوم حدثاً منعطفاً، سيأتي بالضرورة بفنٍ وأدبٍ جديدين، يتخذان من روح الانتفاضات العربية وصورها، إلهاماً ومادة لما سينتجه من إبداع في المرحلة المقبلة.

Ad

ما يفرق فئة عن أخرى، أن هناك فئة آمنت بالتغيير في بلدانها لحظة بزوغ فجره، وشاركت به، ودفعت ثمناً غالياً لمشاركتها. لحقت بالانتفاضة لأنها وفرت لها فرصة الفوز بلحظة عيش كريم كانت تحلم بها. رمت حياتها وجلدها الكالحين، وأسرعت تنخرط في عالم الثورة، تردد معها أغانيها وأملها الذي يعانق الحياة المنتظرَة.

فئة ثانية اكتفت بالفرح لمجيء التغيير، لأنه أزاح عن قلبها وفكرها ثقل القهر والظلم الجاثم عليهما. وحيّت تلميحاً أو تصريحاً الانتفاضة والمنتفضين. لكن، فئة ثالثة، جاءت الانتفاضة لتسلبها سلطتها وحضورها الثقافي والفني والإعلامي والصحافي. رجال ونساء هذه الفئة، يرون في الثورة والتغيير مصيبة وكارثة حلت بهم. وهم إذاً يضمرون وجعهم الشخصي، ليدركوا أنه لا أمل في إرجاع عجلة الزمن الماضي، وأن فرصتهم في الحياة تجبرهم على ارتداء جلودٍ جديدة، تحتمها ضرورة البقاء، حتى لو كانوا كارهين لها. وإذا كان البعض، من رجال ونساء هذه الفئة، سيخجل من نفسه وسلوكه وماضيه الشائن، وسينسحب متوارياً في الظل، مكتفياً بذكريات حياته ومكاسبه الشخصية السابقة. مبتعداً بنفسه عن جادة الجديد بهدير عقول وأقلام وإبداع وآمال مرتاديه الجدد. فإن بعضاً آخر سيعيد حساباته الشخصية على آلة ظنه البالي، وسينزع جلده السابق مرتدياً حلة جديدة تتماشى وألوان الانتفاضة الزاهية. ولن يتوانى أبداً عن إدانة الماضي البائس ورموزه الطغاة. وقد لا يجد ضيراً في أن ينزل بهم أشد صفات الذم والقدح، وهو في كل هذا يضع يده على آلته الحاسبة بين الفينة والأخرى، ليرى مقدر الربح الذي سيناله.

إذا كان من حق كل إنسان أن ينظر لنفسه في المرآة، وأن يزوق نفسه بما شاء من المساحيق، ويجمّل طلعته ما أمكنه التجميل، فإن خبرة الحياة تقول، إن للشعوب ذاكرة يجب احترامها، وأن ميلاد وانتصار ثورة شعبية في أي بلد، يأتي مصحوبا بحياة جديدة وشعارات ووجوه جديدة. ليس على مستوى أنظمة الحكم، بل على جميع مستويات الحياة اليومية، الثقافية والإعلامية والفنية، وأن الحياة الجديدة، ما ان تأخذ مكانها تحت الشمس، حتى تبدأ شيئاً فشيئاً بكنس بقايا الحياة السابقة، والصعود بنجومها اللامعة التي ولدت في سماء تفاصيل حياتها الجديدة.

إن الناظر المتأمل في الحياة الثقافية والفنية والصحافية والإعلامية العربية خلال العقود الأربعة الماضية، يرى بوضوح سيادة أسماء وأصوات بعينيها، وأن هذه الأسماء وتلك الأصوات، ظلت على الدوام حاضرة على مائدة ومشهد الثقافة والفن والصحافة والإعلام العربي، بمقولاتها وفكرها وتنظيراتها، وأظن أن الشعوب العربية بوعيها المتوقد، وبشباب انتفاضاتها، لتقف اليوم بكل عزم لتقول بصوت واضح: ارحل، ليس للرئيس ونظامه فقط، ولكن لفئات كثيرة احتلت ساحة الثقافة والفنون والإعلام والصحافة.

صحيح، أنه يجب التفريق بين شخص وآخر، وبين فكر وآخر، وبين صوت وآخر، ولكن صحيح أيضا أن انتفاضة شبابية عربية، قادرة على أن تلد عقولها وأسماءها، وتقول كلمتها الأجمل إبداعاً وفناً ووصلاً بحياة عربية جديدة طال انتظارها.