عندما انتشرت الرشوة في المملكة المتحدة في النصف الأول من القرن الماضي جاء أحد مستشاري "تشرشل" ليخبره بذلك، فسأله هل وصلت إلى القضاء؟ فأجابه لا. فقال "تشرشل" : إذن البلد في خير. كان المفترض أن يكون هذا المقال حول القضاء المصري خلال عام من ثورة يناير، وما اتخذه من قرارات وأحكام وتأثيرها في الشارع المصري، وأيضا تأثره هو بقرارات الحكومة والمجلس العسكري ومدى تدخلهما في عمله.
وجاءت قضية التمويل الأجنبي لتقلب المقال رأسا على عقب رغما عن أنها مثال صارخ لحيرة القضاء وتخبط القضاة وتدخل المجلس العسكري بالرغم من دستورية الفصل بين السلطات التي يتشدق بها الجميع ويتحدثون عنها ولا يطبقونها. بدأت القضية بإشاعات متداولة بين العامة حول دخول أموال إلى مصر من عدة جهات إلى حسابات مختلفة شخصية ومؤسسية، وتم تكليف النائب العام بالتحقق من هذه الإشاعات ومتابعة هذه الأموال ومعرفة من أين جاءت؟ ولمن صرفت؟ وفيم أنفقت؟ وجاء قرار الاتهام من النائب العام لعدة منظمات من منظمات المجتمع المدني، وبدأ قاضي التحقيقات مباشرة عمله لإثبات الإدانة أو إعلان البراءة– وكمواطن مصري يؤمن بدور منظمات المجتمع المدني وحق المصريين في ممارسة ما يشاؤون من نشاط سياسي واجتماعي كنت أتمنى أن تنتهي التحقيقات بالبراءة– وفجأة بعد جلسة تحقيق واحدة أعلن المستشار قاضي التحقيق تنحيه وعدم استمراره في نظر القضية، وتوالت الأحداث بسرعة البرق، فبمجرد الإعلان عن التنحي هبطت طائرة أميركية عسكرية في مطار القاهرة– بدون إذن مسبق- وتم صعود المتهمين إليها وغادرت القاهرة بعد دفع كفالة، كما قيل، تساوي 2 مليون جنيه لكل متهم ورفض متهم واحد مغادرة مصر وأصر على البقاء في القاهرة.تمت الأحداث (ترحيل أو هروب أو سفر) بصورة لم يقدر أي مصري على استيعابها، وتراقصت أمام الجميع علامات الاستفهام لماذا؟ ومن المسؤول؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ ومازال الأمر لغزا حتى الآن، ولكن المؤكد مهما كانت المبررات أنه تم الاعتداء على سيادة مصر وكرامتها الوطنية. كما أن ما حدث يلخص العلاقة المتشابكة والمتوترة بين القضاء والمجلس العسكري والتي أدت إلى إهانة المصريين جميعا وإحساسهم بالضعف والهوان.إن الطريقة التي خرج بها المتهمون تؤكد بداهة أنهم مذنبون، فالبريء لا يخشى التحقيق ولا يتهرب منه كما أن أسلوب الضغط الأميركي الفج وتهديداته الكثيرة تؤكد ذلك أيضا، أما موقف المجلس العسكري ورضوخه للضغط بهذه الطريقة المهينة للجميع فينقله من حال الغباء السياسي في إدارة الدولة والتي كان يمارسها منذ فبراير 2011 إلى حال البلاهة والحماقة السياسية، فأن تخسر شيئا مقابل شيء أمر قد يقبله البعض تبعا لما تكسب وتخسر، أما أن تخسر كل شيء في مقابل لا شيء فهي الحماقة بعينها.إن المعونات الأميركية التي يتحدثون عنها ليل نهار مهمة لأميركا بقدر أهميتها لمصر سواء على مستوى الاقتصاد الأميركي أو سمعتها ومكانتها الدولية، كما أن التاريخ الذي لا يقرؤه المجلس العسكري، يؤكد تكرار الموقف الأميركي وتهديده الدائم بقطع المعونات، وتتوقف نتيجة الضغوط دائما على ردة فعل الجانب المصري، وبالتأكيد يتذكر الجميع ما حدث في الستينيات من القرن الماضي.للأسف فقد المجلس العسكري كل شيء وأصبحت حاله كحال القوم الذين وصفهم الشاعر:قوم إذا صفعت النعال وجوههم شكت النعال بأي ذنب تصفعأما القضاء ورغم الموقف شبه المشرف الذي وقفه القاضي فإنني كنت أتمنى أن يرفض التنحي كما رفض الضغوط ويفضح الجميع أمام الشعب، فلو فعل ذلك لنال احترام الجميع، وطبق مبدأ استقلال القضاء فعلا لا قولا، أما التنحي فقد يفسره البعض على أنه هروب لا يصح أن يفعله القاضي، وعليه أن يلتزم قول الشاعر:وإني وفيت وإني أبيت وإني عتوت على من عتاولا كل من قال قولاً وفى ولا كل من سيم خسفا أبىوكما بدأنا بـ"تشرشل" ننهي به، ففي يوم طالبه القادة العسكريون في جيشه بالتدخل لإلغاء حكم قضائي ضد مصلحة جيشه، فقال قولته المشهورة "أخسر الحرب ولا ألغي حكم القضاء". هذا قول "تشرشل" فماذا يقول مجلسنا العسكري؟!
مقالات
التمويل الأجنبي بين القضاء والمجلس العسكري
09-03-2012