إننا بحاجة، حسبما قال الأمير الحسن بن طلال، إلى «ميثاق يحمي قيم الربيع العربي»، وإلى رأي عام عربي يتبنى ثقافة المساءلة طبقاً لمقولة أبي بكر الصديق «وإن أسأت فقوموني»... فلا مستقبل للديمقراطية إلا إذا صنعناها في عقول الناشئة .

Ad

كنت في الكويت... وكنت أحد المحظوظين بالمشاركة في العرس الديمقراطي البهيج، انتخابات الكويت لا تماثلها انتخابات أخرى، لها مذاق وطعم فريدان: ندوات ثقافية عديدة وفعاليات جماهرية بهيجة وخيم انتخابية صاخبة وديوانيات عريقة ساهرة، لا سقف للحريات لا تنصت ولا ملاحقة ولا قيود على الصحافة، إني أحب الكويت أحب هذا المجتمع الحيوي الخلاق والمبدع بأطيافه السياسية والمذهبية كافة: موالاة ومعارضة، سنّة وشيعة، قبائل وحضر، ولا أستسيغ التفرقة أو التشكيك في ولاء الجميع وإخلاصهم، حضرت لأحد رموز المعارضة في الدائرة الخامسة فوجدت فرسان الخطابة السياسية يزلزلون الخيمة ويستحوذون على النفوس بخطبهم البليغة، يتلاعبون بالعواطف كيفما شاؤوا، إنهم عباقرة الخطابة بلا منازع!

شاركت في ندوة في سلسلة "أمة 2012" بعنوان "التحولات في العالم العربي ومستقبل الديمقراطية" أدارها الإعلامي الكويتي الراقي يوسف عبدالحميد الجاسم وكنت مع ضيفين آخرين: د. ابتسام الكتبي من الإمارات وعمرو خفاجة من مصر، وتناولت الندوة العديد من القضايا حول التحولات شهدها العالم العربي بدءاً بتونس ثم مصر ثم ليبيا واليمن وما يدور في سورية، وكان التساؤل الأبرز هو: الشعوب العربية قامت مطالبة بالحرية والعدالة والمساواة والمشاركة الشعبية والديمقراطية والقضاء على الفساد وتحسين مستوى المعيشة: إلى أي مدى شكّل "المطلب الديمقراطي" أولوية بين هذه المطالب؟

كان من الضروري توضيح كيف تطور المطلب الديمقراطي لدى الشعوب العربية عبر نصف قرن، إذ لم يكن هذا فيما مضى يحظى بأي أولوية بدءاً من انقلابات الخمسينيات ولم تكن الديمقراطية مكوناً فكرياً أساسياً من مكونات الخطاب القومي ولا الخطاب الديني، لا سلطة ولا معارضة، كانت شعاراً أجوف كبقية الشعارات القومية والدينية نتغنى بها فحسب، وقد بيّنت دراسة قيمة في الثمانينيات لسعد الدين إبراهيم وزملائه أن الديمقراطية ليست أولوية في سلم اهتمامات الرأي العام العربي، فقد جاءت متأخرة بعد قضايا قومية مثل تحرير فلسطين ومقاومة الاستعمار والوحدة العربية والعدالة الاجتماعية (الاشتراكية). وكانت الأنظمة العربية تعزف لحناً واحداً: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، أما المثقفون العرب فكان معظمهم متأثراً بالفكر اليساري الذي يرى أولوية العدالة الاجتماعية على الديمقراطية إذ لا حرية لجائع، وكان "الميثاق" أبرز تجسيد لهذا الموقف في تلك المرحلة النضالية.

والمشكل أنه ظهر جيل كامل من المفكرين العرب في تلك الفترة يستخفون بالمبدأ الديمقراطي أو يجعلونه في مرتبة متأخرة بحجة أولوية الصراع والعدالة الاجتماعية، أما التيارات الإسلامية فكانت تتوجس من الديمقراطية باعتبارها بضاعة غربية فاسدة تجعل حاكمية البشر بديلاً عن حاكمية الله، وهكذا تعاون الدعاة والمثقفون على ترسيخ الاستبداد العربي وتسويغ فكرة "المستبد العادل"، فكان تفرد الزعيم الشعبي المحبوب والملهم والذي يقودنا إلى النصر، مقبولاً لدى الجماهير التي تهتف بالروح والدم فداءً له حتى لو قادنا إلى الهلاك والخراب وتسبب في هزيمة نكراء! كان الخطاب الديني التقليدي يركز على طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه خوفاً من الفتنة، وكان خطاب الإسلام السياسي يحذر من العولمة والتغريب والغزو الفكري والحلول المستوردة التي جنت على أمتنا، وكان الخطاب القومي يضخم من مؤامرات الأعداء الذين لا عمل لهم إلا استهداف العرب وتقويض وحدتهم! لقد بلغ الاستعصاء العربي للديمقراطية أن تساءل صقور البيت الأبيض: لماذا تنتشر الديمقراطية في شتى أنحاء العالم ما عدا العالم العربي؟! وأن على واشنطن واجباً أخلاقياً في نشر الديمقراطية بين العرب ولو بالعصا، وأن الطريق إليها يبدأ من بغداد! حتى إذا تم غزو العراق وإسقاط نظامه 2003 انشغل العرب بحديث الإصلاح وازدحمت الساحة بمشاريع ومبادرات الإصلاح حتى ضاق الأمين العام عمرو موسى وقال: إن السماء تمطر مبادرات ومشاريع للإصلاح!

وتظاهرت الأنظمة العربية بقبولها وأدخلت إصلاحات شكلية إرضاءً لواشنطن، لكنها كانت أذكى من أن تجري إصلاحات حقيقية، وعندما زاد الضغط الخارجي على أنظمتنا للاستجابة لمطالب شعوبها في الكرامة والحرية وإجراء انتخابات نزيهة، لوحت الأنظمة العربية بفزاعة الإسلاميين الذين سيصلون إلى السلطة ويعادون المصالح الغربية، وهناك من المثقفين من وقف في وجه الإصلاح بحجة أن واشنطن تريد أن تشغلنا عن قضيتنا الرئيسية فلسطين بحديث الإصلاح وهدفها إضعافنا في وجه التحدي الخارجي! وذهب بعض المفكرين إلى أن الديمقراطية لا تصلح للعرب بحجة عدم نضج مجتمعاتنا، وأن تراثنا العربي غير ديمقراطي بسبب سيادة الرأي الواحد والمذهب الواحد على مر التاريخ، وهناك الفقر والأمية والثقافة المعادية للحداثة والليبرالية والعصبيات القبلية والطائفية المعرقلة لبناء نظام ديمقراطي حقيقي، لقد بلغ اليأس من الإصلاح الحقيقي أن مفكراً كبيراً هو د. أحمد البغدادي، رحمه الله تعالى، بعث بخطاب مفتوح إلى الرئيس الأميركي بعنوان "السيد الرئيس... إنه الشرق" يقول فيه: "السيد الرئيس في صحراء هذا الشرق يوجد حيوان زاحف يتجاوز عمره آلاف السنين، يسمى "الضب" بشع المنظر، سميك الجلد، سريع الحركة، لعله الحيوان الوحيد بعد التمساح الذي يجسد أسطورة الديناصورات المنقرضة وهو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، أتدري لماذا سيدي الرئيس؟ لا لشيء سوى أنه يعيش في الشرق في الصحراء حيث شح الماء وصعوبة الحياة ولا شيء ينبت حوله، ومع كل هذه الصعوبات لا يزال يركض متحدياً القرون والتاريخ معاً"!.

لست أدعي أن الشرق قوي بل بكل بساطة لديه "جينات" ترفض الديمقراطية وترتاح للاستبداد" مما دفع د. إبراهيم عرفات إلى الرد بمقالة: هل الاستبداد العربي حالة بيولوجية؟! حتى إذا بلغ الاستبداد والفساد غايتهما القصوى وانسدت آفاق التغيير ويئست الجماهير من الإصلاح وانعدمت الآمال في غد أفضل، هبت متحدية الموت في زلزال أطاح بتلك الأنظمة وأصبح المطلب الديمقراطي هو المطلب الأول والأهم لجماهير الربيع العربي، لقد أصبحت تلك الشعوب اليوم وبعد الدروس المريرة على قناعة تامة بأنه لا إصلاح ولا تنمية ولا عدالة ولا تعليم ولا كرامة إلا في مناخ ديمقراطي، فالديمقراطية أولاً وأخيراً كما قال المرحوم خالد محمد خالد قبل نصف قرن، لقد كان إسقاط الأنظمة، إسقاطاً للطروحات الزائفة كافة للخطابين: القومي والديني السياسي عن المؤامرات الخارجية والأعداء المتربصين والغزو الفكري، وثبت أن مصائبنا وكوراثنا نابعة من داخلنا ومن أنظمتنا المستبدة وبما كسبت أيدينا وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

أما عن مستقبل الديمقراطية، فهو مرهون بمدى قدرتنا على تفكيك البنية التحتية للاستبداد (السلطوية في الفكر والثقافة والإعلام والتعليم والتنشئة) ومرتبط بتجريم ثقافة الكراهية عبر منابر وفضائيات تمزق النسيج الاجتماعي وبتحقيق "شروط الديمقراطية"، وطبقاً لجورج طرابيشي: لقد فُهمت الديمقراطية عندنا بأنها ثمرة برسم القطف لا بذرة برسم الزرع، فهي لا تبدأ بشفافية الصندوق الانتخابي فحسب، بل تسبقها ثقافة وقيم وممارسات وتربية لا ترى أعلوية الذكر على الأنثى، وتعليم منفتح على الرأي الآخر، وخطاب ديني يحتضن الإنسان لكونه إنساناً، وتشريع لا يفرق بين المواطنين، وقانون يسود الجميع وقضاء مستقل، ومناصب لا ترتبط بعوائل معينة، ومجتمع مدني يحرس قيم الديمقراطية، لا ديمقراطية ما دام الفقيه هو مرجع المجتمع في الشأن العام.

تجارب قرن من الزمان تثبت أن إصلاح البناء السياسي دون أن يصاحبه إصلاح للبناء الثقافي والاجتماعي، معرض للإخفاق عند أول اختبار حقيقي للرأي العام، إننا بحاجة، حسبما قال الأمير الحسن بن طلال، إلى "ميثاق يحمي قيم الربيع العربي"، وإلى رأي عام عربي يتبنى ثقافة المساءلة طبقاً لمقولة أبي بكر الصديق "وإن أسأت فقوموني"... لا مستقبل للديمقراطية إلا إذا صنعناها في عقول الناشئة أولاً ورسخناها كممارسة في التربية ثانياً، ذلك هو منهج القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.

*كاتب قطري