إذا كان الأوروبيون راغبين في الإبقاء على اليورو، يتعين علينا أن نعمل على تقدم مسار الوحدة السياسية الآن؛ وإلا فإن الاتحاد الأوروبي واليورو سيتفككان سواء شئنا ذلك أم أبينا، وإذا حدث ذلك فإن أوروبا ستخسر كل ما اكتسبته على مدى نصف قرن من الزمان من تجاوز النزعة القومية، وفي ظل النظام العالمي الجديد الناشئ فإن هذا يعني مأساة محققة بالنسبة إلى الأوروبيين.

منذ اندلاع أزمة الديون اليونانية في عام 2010، كان من الواجب على اللاعبين الأوروبيين الرئيسيين أن يدركوا حجم المخاطر والعواقب التي قد تفرضها مثل هذه الأزمة على الاتحاد الأوروبي، لكن من المؤكد أن من ينظر إليهم من المراقبين لن يخرج بهذا الانطباع عنهم. كانت الأزمة منذ البداية تتعلق بما هو أكثر كثيراً من اليونان: فالإفلاس على هذا النحو غير المنظم من شأنه أن يهدد بدفع بلدان أخرى واقعة على الحافة الجنوبية للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بعض البلدان ذات الاقتصاد الضخم، إلى الهاوية المالية، إلى جانب بنوك وشركات تأمين أوروبية كبرى، وقد يؤدي هذا إلى إغراق الاقتصاد العالمي في أزمة مالية أخرى، وإحداث صدمة لا تقل شِدة عن صدمة خريف عام 2008، وقد يعني هذا أيضاً فشل منطقة اليورو على نحو لن تخرج منه السوق المشتركة سالمة.

Ad

للمرة الأولى في تاريخ المشروع الأوروبي تصبح قدرته على البقاء على المحك، وعلى الرغم من ذلك فإن سلوك الاتحاد الأوروبي وأغلب بلدانه الأعضاء المهمة كان متردداً مرتعشا، بسبب الأنانية الوطنية وغياب الزعامة.

إن الدول من الممكن أن تفلس، مثلها في ذلك كمثل الشركات، ولكنها على النقيض من الشركات لا تختفي من الوجود إذا أفلست. ولهذا السبب لا ينبغي لنا أن نعاقب الدول، ولنفس السبب أيضاً لا ينبغي لنا أن نقلل من شأن مصالحها الجارية وأهميتها، فالدول التي تعجز عن سداد ديونها تحتاج إلى المساعدة من خلال إعادة هيكلة قطاعاتها المالية وما هو أبعد من ذلك، حتى يتسنى لها أن تشق طريقها للخروج من الأزمة.

لا شك أن هذا ينطبق على اليونان، التي كانت مشاكلها البنيوية أكثر شدة وأوسع نطاقاً من الصعوبات المالية التي تواجهها، وحتى وقتنا هذا فشل الاتحاد الأوروبي وحكومة اليونان في معالجة المشاكل البنيوية في اليونان، لكن يتعين عليهما الآن أن يعملا على وضع (وتمويل) الاستراتيجية المناسبة لإعادة البناء الاقتصادي، لكي يدرك اليونانيون- والأسواق المالية المتقلبة الفزعة- أن الضوء ينتظرهم عند نهاية النفق.

إن الجميع يدركون تمام الإدراك أن اليونان لن تتمكن من شق طريقها للخروج من الأزمة من دون مبادرة كبرى لإعفائها من الديون، والسؤال الوحيد المطروح الآن هو ما إذا كانت عملية إعادة هيكلة ديون البلاد ستكون منظمة وخاضعة للرقابة والسيطرة أو أنها ستكون فوضوية وناقلة للعدوى.

وفي كل الأحوال، فإن المناقشة الدائرة في ألمانيا حول سداد الديون عن اليونان أو عدم سدادها تُعَد ضرباً من الهزل المثير للضحك. ذلك أن رفض السداد ليس بالخيار المطروح، لأن ألمانيا وكل البلدان الأعضاء في منطقة اليورو تبحر على نفس السفينة، وعجز اليونان عن سداد ديونها من شأنه أن يهدد بإغراق السفينة أيضا، لأنه كفيل بإثارة مخاوف مباشرة حول قدرة البنوك وشركات التأمين ذات الأهمية النظامية في أوروبا على سداد ديونها.

ما الذي ينتظره رؤساء حكومات منطقة اليورو إذن؟ هل هم مترددون في مصارحة شعوبهم بسبب خوفهم على مستقبلهم السياسي؟

إن الأزمة المالية الأوروبية في حقيقة الأمر أزمة سياسية، لأن زعماء الاتحاد الأوروبي غير قادرين على اتخاذ القرار بشأن التدابير اللازمة، والوقت يُهدَر على قضايا ثانوية ترجع جذورها إلى مخاوف سياسية داخلية.

لا شك أنه من الصواب من حيث المبدأ أن نقول إن البنوك لا بد أن تشارك في تمويل حل أزمة الديون، لكن من غير المنطقي أن نصر على ذلك ما دامت الخسائر التي تتكبدها البنوك التي لا نزال نعتبرها "أضخم من أن تُترَك للإفلاس” كفيلة بإشعال فتيل أزمة مالية متجددة. وأي احتمال لإنجاح هذا الجهد كان سيتطلب الإصلاح الكامل للنظام المالي في أوائل عام 2009، ولكن تلك الفرصة أُهدِرَت إلى حد كبير.

وما دامت الأزمة السياسية التي تهدد بقاء الاتحاد الأوروبي مستمرة، فإن أزمته المالية ستواصل زعزعة استقراره، وفي صميم حل الأزمة يكمن يقين مفاده أن اليورو- ومعه الاتحاد الأوروبي ككل- لن يكتب له البقاء من دون قدر أعظم من الوحدة السياسية الأوروبية.

وإذا كان الأوروبيون راغبين في الإبقاء على اليورو، يتعين علينا أن نعمل على تقدم مسار الوحدة السياسية الآن؛ وإلا فإن الاتحاد الأوروبي واليورو سيتفككان سواء شئنا ذلك أم أبينا، وإذا حدث ذلك فإن أوروبا ستخسر كل ما اكتسبته على مدى نصف قرن من الزمان من تجاوز النزعة القومية، وفي ظل النظام العالمي الجديد الناشئ فإن هذا يعني مأساة محققة بالنسبة إلى الأوروبيين.

ولكن من المؤسف أن رؤساء الدول والحكومات، عندما اقترح الرئيس المنتهية ولايته للبنك المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه تنفيذ خطوة في هذا الاتجاه من خلال إنشاء منصب "وزير أوروبي للخزانة”، رفضوا الفكرة جملة وتفصيلا، والواقع ألا أحد تقريباً في المجلس الأوروبي يبدو على استعداد حتى للإقرار بعمق الأزمة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي.

إن حل هذه الأزمة يتطلب المزيد من أوروبا والمزيد من التكامل، وليس الإقلال منه، والواقع أن الاقتصادات الغنية- ألمانيا في المقام الأول والأخير- لا بد أن تدفع الثمن إن كانت راغبة في الخروج من هذه الأزمة.

وسيكون لزاماً على اللاعبين الحاسمين في هذه الأزمة- ألمانيا وفرنسا- أن يعملا على وضع استراتيجية مشتركة، لأنهما الوحيدان القادران إذا عملا سوياً على التوصل إلى حل للأزمة، والمشكلة هي أن الاستفتاء الفرنسي على دستور الاتحاد الأوروبي في عام 2005 رفض المزيد من التكامل السياسي، في حين قد يفشل المزيد من التكامل الاقتصادي الآن بسبب ألمانيا.

وعلى هذا فإن المطلوب الآن يتلخص في حوار فرنسي ألماني ثنائي حول عملية إعادة تنظيم شاملة للاتحاد النقدي، وما دام إدخال تغييرات على المعاهدة أمراً مستحيلاً فلابد من إيجاد سبل وأساليب مختلفة، وهو ما يزيد من أهمية الشراكة الفرنسية الألمانية.

وبصرف النظر عن الأزمة السياسية في الاتحاد الأوروبي والشلل الذي يعوق عمله، يتعين على الأوروبيين ألا ينسوا مدى أهمية وجوده، وهي الحقيقة التي ستظل قائمة، ويكفي أن نستدعي من ذاكرتنا أحداث النصف الأول من القرن العشرين لكي نفهم السبب وراء أهمية الاتحاد الأوروبي.

* يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق وأحد زعماء حزب الخضر الألماني البارزين طيلة ما يقرب من العشرين عاما.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»