لم تكن هناك دولة أصلاً، كانت هناك مجموعة كانتونات وممالك متناثرة يتناوب على حكمها الأوروبيون الذين جعلوها مزرعتهم الخاصة، فبعد البرتغاليين والهولنديين جاء البريطانيون في القرن الماضي ليسخّروا هذا الشعب الكسول بطبيعته، والدولة بشكلها الحقيقي لم تكتمل إلا في 1963، وليس هذا فقط، بل لحقت هذا الاستقلال حروب عدة وخيانات واضطرابات داخلية جرفت الكثير من الأنفس. في هذه الفترة المتقلبة وعدم التوازن السياسي والانحدار الاقتصادي برز نجم هذا الطبيب المتميز الذي وضع أفكاره وتصوراته لمستقبل ماليزيا في كتاب يعرض فيه عقله ومستوى تفكيره، فلم يعجب ذلك السلطة في ذلك الوقت، أو أنها ربما عجزت عن الارتقاء إلى مستوى خيال هذا الرجل فمنعت تداول هذا الكتاب. حسناً... منع الكتاب فجاء مهاتير محمد بنفسه إلى سدة الحكم في 1981 ليضع الكتاب موضع التنفيذ. وجد مهاتير نفسه مقابل تحديين رئيسيين كل منهما يقول "الزود عندي"، فهناك ثلاث عرقيات متنافرة ومتناحرة: السلطة بيد "الملاويين"، والتجارة لدى الصينيين، وأغلب العمالة هنود، والكل "يدّعي وصلاً بماليزيا". المعضلة الأخرى كانت في تحديد مسار هذه الدولة الزراعية التي لا يعرف أهلها سوى زيت النخيل والمطاط الذي كانوا يزرعونه ليصدره المستعمر، وما زاد الحمل على مهاتير هو أن أغلب سكان ماليزيا غير متعلمين، بالإضافة إلى عدم وجود تشريعات تحكم الدولة مما أدى إلى عزوف جيرانها عن التعاون معها. ولأن الرجل لديه رؤية واضحة وضع خطة تمتد لأربعين سنة أقنع فيها خصومه ومنافسيه وأمن جانبهم، وبعدها ذهب إلى اختيار فريق عمله المنفذ، ومن ثم بدأ العمل بوتيرة متسارعة ومتصاعدة. لم نسمع عن حكومة كل تسع شهور، ولم يضع نفسه في قبضة متحكمين سواء كانوا تجاراً أو سياسيين، ولم يخترع لعبة الطائفية والقبلية والطبقية بل دفنها وكبّر عليها أربع تكبيرات، والأهم أنه لم يذكر كلمة تنمية في أي من خطاباته لكنه فعلياً جاء بدولته من آخر عشرين دولة على مستوى التنمية إلى الدولة السابعة عشرة في التطور على مستوى العالم. بهدوء سلس أصبحت ماليزيا آسيا الحقيقية والتي تتألق وتزهو فوق جيرانها إندونيسيا وسنغافورة والفلبين، وتناطح منافسيها كوريا وتايوان، وتتطلع بكل جرأة إلى سحب بساط "الشيخة" التكنولوجية من اليابان العتيدة. وللعلم ففي ماليزيا إحدى أكبر شركات النفط في العالم "بتروناس" وليس فيها قطرة نفط، ومنذ 10 سنوات أصبحت صناعة السيارات عندها هي الثالثة من حيث المبيعات في سوق شرق آسيا بعد "هيونداي" و"نيسان"، ولديها أيضا عشر جامعات ضمن أفضل 500 جامعة على مستوى العالم، وأخيراً وفي الكويت ومقابل 150 ألف فلبيني وفلبينية يعملون في الخدمة المنزلية وموظفات مبيعات وعمالة في المطاعم السريعة برواتب لا تصل إلى 150 ديناراً، لدينا فقط 350 ماليزياً يعملون في السلك الدبلوماسي وخبراء اقتصاديين ومستشارين في التنمية والصناعة.
مقالات
رؤية رجل تصنع دولة
25-02-2012