- 1 -
تمارس النخبة الدينية - الفكرية سياستين انتحاريتين؛ مرة بتجاهل تلك المشاكل الحقيقية التي تعامت عنها النخبة السياسية، ومرة بإغراق الجمهور عبر وسائل الإعلام التي تحتكرها بالمشاكل البيزنطية الدينية أو الدنيوية؛ كالحجاب وهجاء العولمة وعبادة الشيطان، التي تملأ الآن الإعلام وتشغل الناس.السؤال: هل تستطيع النخبة الحديثة المحدودة عدداً وإمكانات، والمحاصرة إعلامياً أن تسبح ضد هذين التيارين الانتحاريين؟ طبعاً تستطيع، رغم المخاطر التي قد تلامس المجازفة بالحرية، والحياة. سلاح النخبة الحديثة في هذا الصراع السياسي- الديني- الفكري هو الفكر النقدي؛ أي توضيح المشاكل التي تطرح نفسها علينا بنقل المسكوت عنه إلى المتناقش فيه، حيث أصيب الفكر النقدي العربي إزاء التراث الديني– القومي بردة حضارية شاملة عادت به إلى مواقع كان قد تخطاها منذ زمن بعيد بالمعتزلة، بإخوان الصفا، بالفلاسفة العقلانيين والملحدين وبالإيديولوجيا الإسماعيلية الثورية. فلقد انتصر الدين على الفلسفة مرتين في العالم العربي: الأولى تحت الحكم السلجوقي، والثانية تحت الحكم الأوروبي الاستعماري، حيث ولد شعار الأصالة (العودة إلى الينابيع) إلى السلف الصالح.- 2 -حتى الآن انتصر التكفير على التفكير، والنقل على العقل، فأوصلنا إلى ما نحن فيه: آخر أمة أخرجت للناس. كيف نقلب المعادلة بتغليب التفكير على التكفير، والتحليل على الفتوى، والعقل على النقل؟ بتقليد النخب الحديثة التي انتصرت على نخبها التقليدية. باستخدام العلوم الإنسانية في نقد تراثها، وصنع قرارها، وتحليل مشكلاتها في إعلامها وتعليمها وحياتها الثقافية، ليس مصادفة أن الغزالي كفّر الفلسفة، والحنابلة كفّروا المنطق، والمتأسلمون المعاصرون كفّروا العلوم الإنسانية "لأنها، كما يقول سيد قطب، مناهضة للدين وللإسلام خاصة". قطعاً للإسلام بما هو دين ودولة، وللقرآن بما هو كتاب تاريخ وجغرافيا وبيولوجيا وطب وكيمياء وفيزياء، لا بما هو "كتاب روحي فقط" كما قالت محقة بنت الشاطئ.- 3 -إن انتقالنا إلى الحداثة سيمر أيضاً بنفس مسار تحويل نصنا المقدس إلى موضوع نسائله بالعلوم الإنسانية لمعرفة ما وراء أبعاده الرمزية من عوامل موضوعية، وما وراء حمولته الروحية من مكونات تاريخية، ولنا في النخبة الأوروبية الحديثة قدوة حسنة: فقد فصلت منذ "الرسالة اللاهوتية- السياسية" في القرن السابع عشر، بين العقل والنقل [الإيمان]، وجعل سبينوزا النقل خاضعاً لمساءلة العقل مثله مثل أي ظاهرة طبيعية، وهو مسار توجه في أيامنا جان بوطيرو الذي حلل على ضوء تاريخ الأديان المقارن، الجذور الوثنية البابلية للكتاب المقدس، وتالياً للقرآن الذي هو استعادة معدلة للعهد القديم.- 4 -نبدأ المسيرة الظافرة للخروج من تاريخ هزائمنا الطويل، عندما نعطي من المحيط إلى الخليج للعلوم الاجتماعية تأشيرة الدخول إلى مدارسنا وجامعاتنا، مثلما دخلت منذ قرون وما زالت تدخل إلى جميع المؤسسات التعليمية في القارات الخمس.فتقليدية المجتمعات الإسلامية تدفعها إلى التشبت بعنصرها الغالب بالعصر اللاهوتي، حيث الإيمان الأعمى هو بديل التفكير العقلاني النقدي. لذلك ما زال الفكر الأسطوري معشعشاً في رؤوس سواد مثقفيها. أضف إلى ذلك العامل الموضوعي الآخر، وهو الإرهاب الأصولي الذي جعل كل قراءة علمية أو حتى عقلانية للنص يكلف الباحث حريته أو حياته.- 5 -إن التراث العربي- الإسلامي يعيق الأمم العربية والإسلامية من الدخول في الحداثة، وهذه قناعة كوّنتها من خلال رصد الأمم التي دخلت الحداثة، وخصوصاً تلك التي توغلت فيها إلى أبعد مدى كالولايات المتحدة. اليونان مثلاً، ذات الماضي الحضاري العريق، لم تدخل الحداثة بل ظلت– وإلى حد كبير ومازالت– متخلفة إلى السبعينيات، لولا انضمامها إلى المجموعة الأوروبية لكانت حتى الآن تئن تحت جزمة عقداء الجيش، ويعيش خُمس سكانها تحت خط الفقر. وما يصدق على الأفراد يصدق على الأمم. نكوص الفرد إلى صباه عائق جديد يعيقه عن التكيف مع مبدأ الواقع، وكذلك الأمم ذات التراث العريق، تغدو بنكوصها إلى ماضيها المجيد عاجزة عن قبول التجديد، والحداثة ليست تجديداً فقط، بل هي قطيعة جارحة للتراث.التراث الديني خاصة، يلعب دور الضمير الأخلاقي الباغي الذي يردع ورثته عن التنصل من أوامره ونواهيه؛ أي المحرمات التي تعيش كل تجديد وكل تحديث، كانتهاك لمقدسات لا يرقى إليها الهمس. كما أن التثبت العصابي في هذا التراث- كما تفعل الأصولية والسلفية- يغذي النرجسية الجمعية والمركزية الإثنية بوتائر عالية، مما يجعلها تلعب دور العائق الذهني.إن التراث يجعل ورثته يعتزون بماضيهم المجيد عن حاضرهم البائس، متخذين منه ملاذاً من الحداثة وحصناً لمقاومتها، بما هي تحدٍ لهذا الماضي الذي تقوقعوا فيه، وحوّلوه إلى طوباوية تسلطية. فالدولة الحديثة التي هي المدخل إلى الحداثة مرفوضة ومبخوسة باسم "دولة المدينة" النموذجية الصالحة لكل زمان ومكان.- 6 -إن تقليدية المجتمعات الإسلامية تعتبر من عوائق تقدم الحداثة، فهذه المجتمعات ما زالت بعنصرها الغالب متشبثة بالعصر اللاهوتي، حيث الإيمان هو بديل التفكير العقلاني النقدي، والذي سبب عشعشة التفكير الأسطوري في رؤوس سواد مثقفي هذه المجتمعات، كما أن الإرهاب الأصولي جعل كل قراءة علمية أو عقلانية للنص تكلف الباحث حياته أو حريته، ولنا من المثقفين الذين حاولوا ذلك أمثلة كثيرة كمحمود محمد طه الذي شنقه النميري، وحامد أبوزيد الذي هرب من بلاده حتى لا تطبق بشأنه الحسبة.إن ما يعيق تقدم الحداثة عدم النجاح في فك التماهي مع الماضي. فألمانيا لم تدخل الحداثة إلا بعد أن أقامت الحداد على تراثها، واهتبلت النخبة المفكرة هزيمة بروسيا الإقطاعية أمام فرنسا البورجوازية في معركة يينا 1806 للمطالبة أكثر من السابق بضرورة تبني النموذج الفرنسي، خلافاً للعسكريين الذين لم يروا من الهزيمة غير مظهرها العسكري، كما فعلنا نحن مع هزيمتي 1948، 1967. في حين رأى المثقفون فيها هزيمة للمجتمع كله، بكل مؤسساته التي لم تعد معاصرة لعصرها، وطالبوا أمتهم بالتماهي مع بفرنسا التي "حققت العقل" بثورتها، وكذلك فعلت اليابان في 1868 وفي 1945.* كاتب أردني
مقالات
هل مشكلة العرب في نخبهم الدينية والسياسية؟
26-10-2011