سيكثر الحديث في مقتبل الأيام، عن «تحالف القيم» الإسلامية مع قيم الثورة الفرنسية 1789، وكان فولتير فيلسوف الثورة الفرنسية والرائد الأول من رواد الليبرالية قبل ذلك بقرنين من الزمان، يرى أن وجود الله، والقيمة المطلقة لشكل معين لفهم الأخلاق، أمران لا شك فيهما أبداً.
ففولتير- كما يقول مؤرخه أندريه كريسون- يعتبر الإلحاد أمراً صعب المسالك، ويقول: «وجود الله هو أقرب شيء إلى الاحتمال، يمكن للبشر أن يفكروا فيه». ويضيف: «القول المعاكس من أبعد الأشياء عن العقل والمنطق». ويختم بقوله: «لو لم يكن الله موجوداً إذا لوجب اختراعه». وتلتقي الليبرالية الإسلامية السعودية- مثلاً- مع فولتير ممثلةً بالمفكر السعودي يوسف أبا الخيل الذي كتب مقالات عدة في جريدة «الرياض» حول عقلانية الإيمان بالخالق، تأكيداً لإيمان الليبرالية بالله. وعلى عكس ما يُطلق عليها الأصوليون الظلاميون الطفوليون من كفر وإلحاد وزندقة، في مواقعهم على الإنترنت، التي تشبه إلى حد كبير مغارات «تورا بورا» في أفغانستان. وهو لا يعدو- كما قال يوسف أبا الخيل- «أن يكون اغتيالاً معنوياً على طريق الاغتيال الحسي للمخالف». («منهج الحوار في القرآن الكريم»، جريدة «الرياض»، 11/ 3/ 2008).ويقول في مقال آخر: «الإسلام- على خلاف ما يريده المتشددون والمتنطعون- لا يُكفِّر مخالفيه لمجرد عدم اتباعهم رسالته، بل يُكفَّر منهم فقط، من يحول بين الناس وبين ممارستهم لحرية العقيدة التي كفلها لهم، ولم يلتبس الأمر إلا عندما اخترع الفقهاء مصطلح (دار الحرب) في مقابل مصطلح (دار الإسلام) زمن الفتوحات. فأصبحت (دار الحرب) تعني حينها كافة المجتمعات والدول التي لا تنضوي تحت لواء الدولة الإسلامية، التي تمثل بدورها (دار الإسلام)، مما سمح بتعدية مصطلح (الكفر) لاحقاً، ليكون وصفاً لكل من لا يدين بالإسلام». («الآخر في ميزان الإسلام»، جريدة «الرياض»، 27/ 11/ 2007).ومما قاله «أبا الخيل» عن الكفر والإيمان: «الغريب أن الوعي الزائف والنفور من العلم، بل والوحشة منه، يزيد في عالمنا العربي والإسلامي، درجةً ونوعيةً، كلما تقدم به الزمن، في وضع معكوس تماماً لما يفرضه واقع عالم اليوم. فأسلافنا، على العموم، كانوا أقل حساسية منّا فيما يتعلق بنتائج العلم التي ربما تخالف بعض ظواهر النصوص الدينية. ويمكن معرفة ذلك مما كتبه الدكتور حمزة المزيني، المفكر والأكاديمي التنويري السعودي في مقال له بعنوان: «آفة الأخبار رواتها» من أن عباس محمود العقاد لم يرَ، فيما كتبه عن (نظرية النشوء والارتقاء)، تهديداً للإيمان بأن الله هو الخالق، فيما كانت الحال لدينا في السعودية قريبة من ذلك، فقد كتب الشيخ السعودي محمد أحمد باشميل كتاباً يصوِّر حواراً بين شيخ وتلميذه يناقشان، بحياد واضح، الأدلة المؤيدة والمعارضة لهذه النظرية. وانتهى الشيخ إلى أنه يمكن تأويل هذه النظرية، بطريقة لا تجعلها تصدم الإيمان بالله خالقاً». («النفور من العلم عنوان مجتمعات ما قبل الحداثة»، جريدة «الرياض»، 24/ 10/ 2009).الليبرالية وترسيخ الإيمان باللهقلنا إن الليبرالية الفرنسية متمثلةً بفولتير فيلسوف الثورة الفرنسية، والليبرالية الإسلامية السعودية متمثلةً بيوسف أبا الخيل، الذي يحفر، ويفكك، وينقد التراث الديني من داخله، وليس من خارجه أو من فوقه، كما يفعل آخرون من الليبراليين السعوديين...، قد رسخّتا الإيمان بالله.. وكان فولتير يعتبر أن الإلحاد أمرٌ صعب المسالك. وكان يوسف أبا الخيل، قد عزز هذا الإيمان ورسَّخه وعمَّقه، من خلال النصوص التي عرضناها له سابقاً.فماذا الآن عن الأخلاق في المفهوم الليبرالي من خلال الإسلام، ومن خلال الثورة، في نصوص هذين الممثلين للثورة الفرنسية والإسلام النقي. وهل تلتقي قيم الأخلاق والثورة الفرنسية كما عبَّر عنها خالد الفيصل في «تحالف القيم»، ودعا إلى قيام «تحالف القيم» بين الإسلام والثورة الفرنسية، في خطابه أمام مجلس الشيوخ الفرنسي في 11/ 3/ 2010؟الأخلاق في جوهرها لا تتغيرتتلخص فلسفة فولتير، في أن الأخلاق في جوهرها هي نفسها في كل مكان وزمان؛ بمعنى أن قيم الخير، والشر، والعدل، والظلم، هي نفسها لم تتغير، ولم تتبدل، في كل مكان وزمان، وعلى مدار التاريخ. وفيما لو تم تبدُّل أو تغيُّر طفيف فيها، عُدَّ انحرافاً عن الأصول، فذلك يعود إلى كتبة وفقهاء السلاطين والملوك والحكام، الذين دأبوا على ليّ عُنق النصوص، لكي تتلاءم وتتماشى مع سياسات الحكام والسلاطين. وامتد هذا التحريف للقيم، منذ فجر التاريخ حتى الآن. إن هذه القيم ليست فطرية، ولم تُوجد بوجود الإنسان على الأرض. فليس فينا ما هو فطري، كما يؤكد الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632 - 1704)، جذر الليبرالية الأول في أوروبا. وحجة جون لوك في هذه المقولة، أن المفاهيم الأخلاقية تتحقق حين تصل طبيعتنا إلى درجة معينة من التطور. وفولتير يؤكد ممارسة الإنسان لكل لذات الحياة، شريطة ألا يؤذي الآخرين. ولخص فولتير فلسفته بهذا الخصوص بقوله: «اعبد الله وكن صالحاً»، وهو ما قالته كل الأديان، ولكن بأساليب مختلفة.ومفهوم الأخلاق في «الليبرالية السعودية» لا يختلف عن مفهوم الإسلام للأخلاق. وأنا هنا، لا أريد أن أكرر ما قيل عن مفهوم الأخلاق في الإسلام، فقد كُتبت في هذا الموضوع آلاف الأبحاث، وصدرت آلاف الكتب، ومعظمها- للأسف الشديد- يُكرر نفسه، أو يُعيد ما قاله الآخرون، ومن النادر أن تجد الجديد في هذه الأكوام الضخمة من الكتابات والأبحاث، في الماضي والحاضر.وما يهمنا في هذا المقام، ما كتبه يوسف أبا الخيل، أحد الغصون اليانعة في شجرة الليبرالية الإسلامية السعودية. فأبا الخيل لم يقتفِ أثر المؤلفين التقليديين من تراثيين ومعاصرين، في شرحه لـ«الأخلاق الإسلامية»، والحديث عن ثواب الفضيلة، وعقاب الرذيلة في الإسلام، كما أنه تحاشى التمجيد، والتبجيل، والتقديس، المتكرر للأخلاق الدينية. ولكنه لجأ إلى ربط مفاهيم «الأخلاق الدينية» بمفاهيم الأخلاق عند فلاسفة التنوير الأوروبي. فنقرأ في مقالة له:«ما أن جاء القرن الثامن عشر، وتحديداً النصف الثاني منه، حتى تلقَّف الفلاسفة التنويريون في أوروبا حصاد بذور العقلانية الديكارتية، ليتحول التنوير إلى حركة فكرية شاملة، يقودها تيار ضخم من الفلاسفة، الذين ذهبوا يحاربون مثبطات العقل الإنساني بمنطق التنوير الداعي إلى تخليص الفكر الإنساني من الخرافة والدجل وادعاء العلم، بالكشف، والذوق، وتحرير العقل الإنساني، من سطوة الوصاية الكنسية الكاثوليكية. ومدوا تساؤلات التنوير، لتصل إلى كل شيء تقريباً. وقد تولّى هذه المهمة الكبرى فلاسفة وعلماء، توزعوا على مستوى القارة الأوروبية، من لوك، ونيوتن، وهوبز، وبركلي، وهيوم في إنكلترا، إلى دالمبير، وديدرو، وفولتير، وجان جاك روسو في فرنسا، إلى هيغل، ثم إيمانويل كانط في ألمانيا مؤسس المذهب النقدي في أوروبا، الذي أكمل مسيرة الإصلاح الديني في أوروبا، التي بدأت في القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر، بمناداة كانط بمدِّ حدود العقل، لتحكم على المذاهب القولية غير البرهانية. كما طوّر كانط المبدأ العملي للأخلاق، آخذاً في الاعتبار أن قيمة الأفكار، والإيديولوجيات عموماً، تكون بمقدار ما لها من قدرة على عون الإنسان على الرقي والتطور الاجتماعي. وبمعنى أوضح، بما لها من قدرة على إصلاح الواقع المعاش. لا بربطها بدور ميتافيزيقي غير معاش. وهكذا يمكن القول إن هذا الفيلسوف أول من طرح مفهوم الأخلاق بطريقة واضحة وصريحة». («التنوير... قلب معادلة الوسائل والغايات»، جريدة «الرياض»، 6/5/2008). فهل يقرأ التيار الديني الحالي في تونس، ومصر، وليبيا، والكويت، وغيرها، هذه الأفكار، ويعيها تماماً؟* كاتب أردني
مقالات
هل سيفهم التيار الديني معنى الليبرالية الإسلامية؟!
29-02-2012