وأخيرا سقط ملك ملوك إفريقيا- كما كان يسمي نفسه- بعد أكثر من أربعين عاما من الحكم الدكتاتوري، والمواقف والمشاهد الغريبة التي تدل على اختلال في الشخصية، وإن كنت لا أخفي سرا بأنني كنت أستمتع بالسماع لخطاباته أحيانا من باب "خذ الحكمة من أفواه المجانين"، لكن مشهد سقوطه أعقد من المشهد الذي تحاول بعض وسائل الإعلام رسمه لنا من أنه انتصار للثورة وللإرادة الدولية على هذا الطاغية، لأن ما رأيناه كان أيضا مشهدا للتناقض الصارخ في المبادئ، ومحاولة الضحك على ذقون الناس، مستغلين عواطفهم وذاكرتهم القصيرة.

Ad

فالدول الغربية التي وقفت مع الثوار في وجه القذافي حاولت تصوير وقفتها هذه على أنها انتصار لحقوق الإنسان، وتأييد لمطالب الشعب، وتناست أنها كانت إلى فترة قصيرة ماضية متعاونة معه وداخلة في صفقات مع نظامه، فسيلفيو بيرلسكوني قبّل يد القذافي أمام الكاميرات قبل عدة شهور فقط من أجل الحصول على عقود نفطية، وتوني بلير عندما كان رئيسا لوزراء بريطانيا رضي بأن يرفع القذافي رجله في وجهه أثناء جلوسهما معا في خيمة الأخير؛ عندما كان يحاول الأول الحصول على عقود نفطية وصفقات سلاح أيضا.

كما أظهرت الوثائق أخيرا أن المخابرات الأميركية والبريطانية كانت على علاقة وثيقة بمخابرات القذافي، وأبرز أوجه هذه العلاقة كان تسليم المتهمين بالإرهاب إلى المخابرات الليبية مع قائمة بالأسئلة حتى تقوم هذه الجهة بعمل ما لا تستطيع مخابرات أميركا وبريطانيا ممارسته على الأراضي الأميركية والبريطانية من أساليب تعذيب.

ويبدو أن الليبيين الذين يرفعون اليوم أعلام هذه الدول وصور رؤسائها نسوا أيضا أن هذه الدول هي التي كانت تزود النظام البائد بشتى الأسلحة التي استخدمها ضد شعبه في ثورتهم الأخيرة.

نعم سقط كابوس القذافي الذي جثم على شعبه لأربعة عقود، لكن لم ينجح الثوار– مع تقديري لمشاعر مئات الآلاف من الذين انتفضوا بحسن نية- لأن ثورتهم لم تكن نقية خالصة، بل اعتمدت على دول همها مصالحها بالدرجة الأولى، ولعل هذه المصالح هي التي جعلت حلف الناتو لا يتحرك عسكريا إلا بعد أن وصلت قوات القذافي إلى مشارف معقل الثوار في بنغازي، ويبدو أن دول الحلف حصلت على كثير من التنازلات والوعود من الثوار في مقابل هذا التحرك.

كما أن التجارب علمتنا أن أغلب المعارك التي يتدخل فيها الأجانب تكون نتائجها مختلفة عما يتمناه الناس.

فالقبائل العربية ثارت ضد الحكم العثماني بعد الحرب العالمية الأولى، وقدمت التضحيات بعدما حصلت على وعود بالاستقلال إلى أن اكتشفت متأخرا أن البريطاني سايكس والفرنسي بيكو عقدا سرا اتفاقية تقسيم الأرض العربية استعماريا، واستغلت أميركا الثوار الأفغان في محاربة السوفيات وطردهم من أفغانستان، فلم تكن النتيجة بعد ذلك سوى حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس إلى يومنا هذا.

وتدخلت أميركا أيضا للإطاحة بصديق الأمس صدام حسين، وكرست بعد ذلك الاختلافات المذهبية والعرقية بعد عدم نجاح مخططها في فرض من تريده هي لحكم العراق.

وقد تكون الفوضى الخلاقة هي ما ينتظر ليبيا الآن، خاصة أن المجلس الانتقالي ليس مجلسا ثوريا بمعنى الكلمة لأن جل أعضائه هم رموز سابقون للحقبة البائدة، فرئيسه مصطفى عبدالجليل كان وزيرا أسبق للعدل، ورئيس جيش الثوار المقتول عبدالفتاح يونس كان وزيرا لداخلية القذافي، وهو منصب يحتم على صاحبه التورط بشكل أو بآخر في القمع والتعذيب، والساعد الأيمن للقذافي عبدالسلام جلود كان إلى قبل يومين من سقوط طرابلس إلى جانب القذافي لينشق بعدها وينضم إلى الثوار وترفع صوره وكأن شيئا لم يكن!

إن هذه الوصفة لا تبشر بخير، ويبدو أن أمام الثوار والمجلس الانتقالي، بل الشعب الليبي الشقيق بأكمله، فاتورة ضخمة ليدفعها إلى قوى الاستغلال التي ستجني عائدا ضخما على استثمارها في مشروع إسقاط القذافي، وما التسريبات التي تحدثت عن حصص توزيع النفط الليبي النظيف سوى أول الغيث.