يظل هاجس التجريب والاختلاف ديدن الكاتب أياً كان، بيد أن لهذا الطريق مزالقه وأخطاره، إن لم يكن له أيضاً تبعاته ونتائجه.

Ad

أول تلك المزالق ندرة أن تجد لك أحداً يؤمن بما تصنع، ناهيك عن أن يتلبّس (هذا الأحد) عقلك وحسك ليحسب معك الشاردة والواردة، أو يُجهد نفسه ووقته في لمّ شتاتك والتنقيب عن الجوهرة المختفية في أكوام القشّ! ناهيك عن السؤال الذي لا ينفك ينخر فيك: ما مدى قدرة هذا اللون من الكتابة على الصمود؟!

ثاني تلك المخاطر، مواجهة الكاتب نفسه بالسؤال الأزلي: لماذا أكتب؟ ولمن؟ ويبدو لي أن سؤال (لمن) أكثر إلحاحاً في هذا السياق من سؤال (لماذا)، لأن حوار الإنسان مع نفسه يظل حواراً حراً غير خاضع لأي معايير، بينما الحوار مع الآخر يجعل من الحرية مسألة فيها نظر ولها سقف. وحين يأتي التجريب فاقعاً أو مرتدياً ثياب الغربة، يبدأ جسر التواصل مع معايير الآخر (سواءً ذوقية أو فكرية) يضرب في الظلمة أو التيه!

هناك مقولة للكاتبة والروائية البلجيكية إميلي نوثومب لعلها تصلح لتوضيح المأزق الثالث في هذا السياق، وهي قولها : "أن تكتب دون أن تستمتع هو أمر لا أخلاقي". والمقولة وإن كانت قاسية، إذ لا يمكن لأحد أن يكتب دون أن تحقق له كتابته لوناً من المتعة حتى لو كانت بعد ألم ومشقة. إلا أنني ألمح وراء المقولة بعداً آخر، وهو: أن تقرأ دون أن تستمتع هو أمر لا أخلاقي، أو (للتخفيف من وقع المقولة) هو أمر مؤلم ومدعاة للانزعاج والغضب. هل لأن النص التجريبي يتحدى ذائقتك؟ أم لأنه يُطيح بمنطق المتعة القرائية التي قرّت أصولها في وعيك؟ وإلى أي مدى يمكنك أن تكون متواصلاً ووفياً لهذا اللون من القراءة المرهقة؟

رابع المآزق في هذا السياق لعله يتمثل فيما يقال من فلذات (نقدية) حول العمل الأدبي. فمعظم ما يُقال قد يكون من قبيل المكر المتخفي في ثوب البراءة! لأن الناقد في الأعم الأغلب يتباهى بكتابته هو حول النص، ويحتفي بأناه الكامنة في لبّ المنجز النقدي، ويتنطع بمدى ذكائه في اقتناص ما لا يُقتنص ونفاذ بصيرته في رؤية ما لا يُرى! وما أكثر ما يقف كاتب النص حائراً إزاء تحليلات وتعليلات نقدية خارجة عن سياقات عمله، وأحياناً لا وجود لها إلا في مخيلة الناقد! هل هذا اقتراب مما يُسمى نقد النقد؟ ربما، ولكن يقيني أن النص تظل له استقلاليته وكينونته الخاصة، ومسألة أصالة النص أو ضعفه الفني لا يمكن تحديدها من خلال ما يُكتب حوله من نقد، لأن النقد يظل مجرد وجهة نظر قد تصيب أو تخطئ.

قد تصلح هذه المقدمات جميعها مدخلاً للمناورة حول نصوص (تلقي بالشتاء عالياً) لاستبرق أحمد، التي تقترب في صورتها العامة من التجريب الذي يعزف على أوتار القصة القصيرة، وإن كان لا يمثلها بالضرورة. فما يُقرأ بين دفتي المجموعة التي تقع في حدود أربعين ورقة (بعد حذف ما زاد على المتن)، هو صور لمشاهد ومواقف مقصوصة من سياقات افتراضية. وبسبب تلك الفراغات في الزمن والمكان، والفجوات في الحوار والسرد، بدت لنا الشخوص والأحداث مموّهة بالتجريد، سابحة في فضاءات تشبه الوهم، أو وهم يشبه الحلم.

ولأن الاحتمالات في النصوص مفتوحة المعاني والمقاصد، وربما مفتوحة أيضاً في وعي كاتبتها أو لاوعيها، أتت اللغة أيضاً مبهمة ومقلقلة، مبتورة في سياقات جملها، فقيرة في شعريتها، كأنها تتساقط  من أشجار تنمو على حافة العالم قبل أن تؤتي أكلها. ويبقى التعويل الأوحد في هذا العالم الهلامي المربك على القارئ المثابر الذي تستكمل مخيلته وفطنته ما خلفته النصوص من فجوات وحفر.

وتظل حزمة الأسئلة تتكاثر – رغم هذا الفهم الفجّ ربما -: مَنْ التي تلقي بالشتاء عالياً؟ وما علاقة هذا الفعل بالنصوص؟ ولماذا اندس الشتاء بمظاهره التي أتت بها عناوين من مثل: تجمد، برودة، برق، رعشة، صقيع، جليد، مطر.. إلخ، بين عناوين أخرى بلا رابط نفسي أو سردي أو منطقي؟ وباختصار أين تقف الكاتبة وأين يقف القارئ في هذه الرمال المتحركة؟!