أنا من الذين يقولون إن ما يجري في الكويت اليوم هو مخاض ضروري، وإن كان مؤلما جدا، وذلك حتى تنتقل الكويت إلى المرحلة التالية من تجربتها الديمقراطية، وهي التي كانت قد وصلت إلى مرحلة الاختناق والتدهور الواضح السريع، فقدت معها كل ما يمكن أن يحسب لهذه الديمقراطية على محمل إيجابي، اللهم إلا بقايا من المساحة التي كانت متاحة لحرية التعبير، وهي التي تعرضت بدورها لكثير من الضربات الموجعة أخيرا.

Ad

هذا المخاض المؤلم ضروري، لأن كل الأطراف، وقبلها جميعا النظام نفسه، وإلى عهد قريب، لم تكن تريد أن تدرك وتقتنع بأن الديمقراطية والدستور ليسا سوى أداتين تحتاجان إلى التطوير والتعديل بل أحيانا التغيير، مع تطور الزمن وتشابك التعقيدات وتكاثف التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، داخليا وخارجيا، وأنه ليس نصوصا وممارسات مقدسة لا يجب مسها أبدا. كل دساتير وأدوات العالم الديمقراطي تعرضت للتعديل والتحديث والتطوير مع تطور التجربة، لمزيد من الحريات والعدل والرخاء لشعوبها، إلا دستورنا وأدواتنا الديمقراطية وممارستنا العجوز، التي لا تزال كما هي، وكأنها ماكينة من عصر الستينيات يراد لها أن تعمل في القرن الحادي والعشرين بذات الكفاءة ودون أن تتعطل.

بل إن المؤلم حقا، أن هناك اليوم من لم يكتف بذلك، بل يسعى جاهدا لتجريد ديمقراطيتنا، أكثر وأكثر، من قليلها الباقي، ليجعل من الكويت بلدا سلطويا مركزيا، ظنا منه أن هذه هي الطريقة الأنجع للسيطرة على مقاليد الأمور، وأن هناك من الناس أنفسهم، من يسعد بذلك ويصفق له طربا، ظنا منه أن هكذا يستعاد الأمان والهيبة، وهذا خطأ عميق وفادح، سيغرق السفينة بجميع من فيها، لو كانوا يعلمون. لكن، وبطبيعة الحال، فهناك احتمالات صعبة في المسألة، فهذا المخاض قد يطول جدا، ورأينا ذلك يحصل في بلدان استمرت في الاضطراب السياسي لسنوات طويلة، وبعضها لا يزال، وكان ذلك على حساب التنمية والتطور، وقد يصبح المخاض أكثر دموية وألما على الجميع، وقد يتجه كذلك إلى ما لا تحمد عقباه، حيث الخسارة ستطول جميع الأطراف، ولن يكون هناك رابح حقيقي، ابتداء من النظام وانتهاء بالناس أنفسهم.

هي احتمالات أمام ما يجري، ولا يمكن لأحد أن ينفي حصول أي منها، ولكنني سأظل أومن بألا سبيل لبلدي أن يخرج من هذا النفق المظلم، الذي إن بقينا فيه، فنحن نتجه إلى أسوأ الحالات قطعا، إلا بالمرور بهذا المخاض الصعب، على أمل أن يكتب الله لنا من خلاله فرجا ولبلادنا انفراجا.

وما من شك في أن ترجيح أحد الاحتمالات لمآل ما يجري اليوم عن الآخر هو بيد أطراف اللعبة المباشرين، وتميل الكفة لمصلحة من بيدهم مفاتيح وخيوط أكثر، لذلك فإن عجز هؤلاء عن إدراك حساسية ما يجري اليوم، وإدراك حقيقة أنه أشبه باللعب بأعواد ثقاب في غرفة مليئة بأصابع الديناميت، وتساهلوا مع الموضوع، أو أنهم، وهذا الأخطر، حولوا المسألة برمتها إلى عناد وصراع شخصي، فإننا جميعا سائرون نحو الأسوأ وللأسف.

أحداث اليوم كشفت الحقيقة المعروفة لمن يريد رؤيتها اليوم حقا بعدما تجاهلها وتعامى عنها سابقا. كشفت كيف أن الإعلام، أو لنقل قطاعا كبيرا منه، يلعب دورا تدميريا في ما يجري من خلال ما يبثه وينشره ويسلط الضوء عليه وأن هذا الإعلام قد صار في قبضة الفاسدين، وكيف أن عنصري الطائفية والفئوية في أعلى المستويات وأنها باتت تستغل لتأجيج سعير النار المشتعلة، وأن الفساد مستشرٍ بشكل لم يسبق له مثيل على كل المستويات من أعلاها إلى أدناها، وأن المؤسسة التشريعية صارت فاقدة لقيمتها، ما بين استلاب صلاحياتها وتلوث الذمة المالية للكثير من أعضائها واختطاف قرارهم المستقل، وأن مفهوم الوطنية عند أغلب الناس قد صار هشا وغير واضح وربما بلا قيمة ودلالة، وغير ذلك كثير.

هذا الواقع القاتم جدا كانت علاماته وأماراته لائحة بادية منذ زمن، ولكن أحدا لم يتحرك، واليوم عمّ وطمّ، حتى وصلت السكين إلى العظم، وصار لابد من المواجهة أو النهاية.

سأظل متفائلا بغد أجمل، رغم كل هذا الألم، لأن الوقت في مصلحتنا، نحن عشاق هذا الوطن الجميل في قلوبنا وخيالنا وأحلامنا، نحن الذين نرفض أن يتم اختطافه على يد الفاسدين والفئويين والطائفيين، وسيلقَّاها الذين صبروا، ولذلك سنظل صامدين ما دام في العمر بقية، وإن رحلنا فسوف يأتي من بعدنا من يكمل المسيرة، وإن كنا اليوم نألم فإنهم يألمون بشكل مضاعف، ولكننا سنظل نرجو من الله ما لا يرجون.