من دوامة الصدام السياسي والصداع اليومي حول دعاوى الفساد والرشاوى، ومن ضغوطات الخطاب الإعلامي وحُمّى الإضرابات والاضطرابات، ينتزعك الطائر الميمون من معمعة الغبار والضجيج، ويحط بك في بقعة أخرى حيث للنفس مستراح مختلف وللحوار إيقاع آخر.

Ad

هكذا يفعلها (عبدالعزيز البابطين) حين يلّون الواقع المدقع باحتمالاتٍ أكثر خصوبة، وينطلق بنواياه النبيلة نحو ربوات عالية، يؤمن إيماناً عميقاً بأن وراءها ستمتدّ حقول القمح والعرار وأسراب الطير. لذلك فهو لا يتعب من مهنة الحداء والغناء للقوافل التي تأتي من كل فجّ عميق، فلعل في الحلّ والترحال ما ينبئ بالوصول إلى موارد الماء ومنابت الكلأ.

إن المتأمل في مشروع البابطين الثقافي، بكل ما يزخر به من زخم في الأنشطة والفعاليات، وما ينفذه من مهرجانات وملتقيات علمية وثقافية بآلية مطردة وخطط زمنية محكمة، وما يوظفه من طاقات بشرية ومادية، نقول إن المتأمل بكل هذا الزخم قد يأخذه العجب من ذلك الإيمان الراسخ الذي يعمر قلب راعي المشروع وأبيه الروحي. فالنوايا الحسنة والتطلعات النبيلة قد لا تكفي وحدها لرفد مشروع ثقافي بهذا الحجم والامتداد، ما لم يساند هذه النوايا والتطلعات إيمان قلبي راسخ بأهمية الثقافة الإنسانية في زمن كثرت فيه الرهانات على الأرباح المادية والجدوى الاقتصادية من وراء كل مشروع.

وإذ يغامر (أبو سعود) بخوض غمار مشروع غير ربحي بكل المقاييس الاقتصادية، فإنه أيضاً يركب مركباً أكثر صعوبة حين لا يقصر جهوده على استزراع الثقافة بين ظهرانينا فقط، وإنما تأخذه التطلعات إلى العالم الرحب، فيمتدّ مشروعه الثقافي نحو عواصم العالم وجامعاته ومؤسساته العلمية والثقافية. وهو بهذا التوجّه المنفتح على ثقافات العالم لا يتقمص دور السفير المثقل بأعباء البروتوكولات الدبلوماسية، بقدر ما يهمه تأسيس نمط من الحوار الإنساني المتجدد، وردم تلك الجفوة بين الثقافات المتباينة باليد البيضاء حيناً وبالكلمة الطيبة أحياناً. ولعل خير ما يلخص إيمانه بإمكانية التعايش بين الثقافات، ذلك الشعار الذي يقول بأن الأدب والشعر قد يصلح ما تفسده السياسة وما تفسده النعرات الدينية والعرقية أيضاً.

في ظل تلك العقيدة الراسخة لصاحب المشروع بإمكانية أن يُصلح الشعر ما تفسده الصراعات العرقية والدينية، عُقد ملتقى (الشعر من أجل التعايش السلمي) مؤخراً في دبي، ليلقي ألقاً ثقافياً على تألقها الاقتصادي والعمراني، وليلمّ حولها ثلة من المحبين والمهتمين من قارات العالم قاطبة. وبعيداً عما دار على منصات التقديم من أوراق بحثية وحلقات نقاشية وقراءات شعرية، فإن جلوس الشاعر الهندي والصيني والأميركي والهولندي والإنكليزي إلى جانب الباحث الفرنسي والإسباني والروسي، وبمعيتهم الأساتذة والأكاديميين من بولندا والعراق ومصر وإيران وما شئت من جنسيات وأعراق، إلى طاولة واحدة ليتقاسموا الطعام والشراب ونتف الأحاديث والدعابات والتحايا، لهو أجمل تمثيل للتجانس والتقارب الإنساني حتى لو كان لبرهة من الزمن.

لقد مضى حين من الدهر كان فيه لرجالات الكويت ونسائه أيضاً أيادٍ بيضاء في النهوض بالمشاريع والمؤسسات الثقافية، حين كانت الكويت بلداً صغيرة تغالب مشاق العيش وضنك الحياة. وما المدرسة المباركية والمكتبة الأهلية والنادي الأدبي وغيرها من المشاريع الثقافية إبان عشرينيات القرن الماضي غير نماذج وأمثلة للمساهمات الأهلية في خدمة المجتمع. وحين تولت الدولة هذه المهمة مع مطالع النهضة منذ خمسينيات القرن الماضي استطاعت أن تقطع شوطاً جديراً بالتقدير. بيد أن تسرب عوامل الوهن وقلة الإيمان بجدوى الثقافة في أيامنا هذه أثر بشكل واضح على أداء مثل هذه المؤسسات الثقافية وأحالها إلى مجرد هياكل إدارية تحتاج إلى دفعات جديدة من الإيمان والألق.

وأعتقد بأن وجود أمثال مؤسسة البابطين الثقافية، وهي مؤسسة أهلية تدار بأموال القطاع الخاص، وفي مثل هذا الفترة من الركود الثقافي والاجتماعي، ما هو إلا إعادة اعتبار لدور المؤسسات الأهلية في التنمية المجتمعية، وهو دور طليعي وهام سوف يحسب لرجل آمن بالثقافة والتنمية، ووضع إيمانه رهن التنفيذ.