الواقع أنه ليس منا أحد لم يشعر يوما أن حياته على وشك النهاية عبر حادث مروع أو مرض مميت أو موقف خطير ينجو منه ليمنح وقتا إضافيا يعيشه وفرصة أخرى يغير فيها حياته ويقدر قيمة اللحظة التي يعيشها ليصبح إنسانا أفضل، فكم عدد من استثمروا هذا الوقت الإضافي فيما ينفعهم وينفع الناس؟!

Ad

استوقفتني حكاية منشورة في عدد قديم من مجلة "ريدرز دايجست" كاتبها اسمه "بيل وورنك" وعنوانها "معجزة الحياة" يقول فيها:

سمعت للمرة الأولى عبارة "الوقت الإضافي" من صديقي العجوز "جو" الذي كان يبلغ الحادية والثمانين، لكن صحته ومرحه الدائم يجعلانه يبدو وكأنه في الستين، فسألته عن سر نفسه الطيبة التي يحيا بها دائما، فابتسم ثم أخرج ثلاث قطع معدنية ملتوية بشدة وقد اسودّ لونها، وسألني "هل تعرف ما هذه؟" قلت: "تبدو لي كقطع نقدية"، فقال: "إنها كذلك، فهل تعلم ما حل بها؟!" قلت: "أصابها برق من السماء؟" قال ضاحكا: "لم تبتعد كثيرا، لقد سكنت هذه القطع ساقي يوما من الأيام"!

حدث ذلك في خلال الحرب العالمية الأولى، فوسط الظلام الحالك وجنون القصف قفز "جو" أمام مدفعه لحظة انطلاقه لتحترق بزته العسكرية وتتغلغل القطع النقدية الثلاث من جيب بنطلونه إلى داخل فخذه وسط ألم شديد، على الفور تم نقله للمستشفى لتستخرج اثنتان من تلك القطع، بعد بضعة أشهر برئت جروحه قليلا وأعفي من الخدمة ليعود إلى بلاده، لكن بعد مرور سنة على الحادث تكون خراج في الجانب الخلفي من فخذه، وحاول الأطباء كثيرا قبل أن يتمكنوا من استخراج القطعة النقدية الثالثة المسودة، ويبدو أن القذيفة انفجرت بعنف وحملت القطعة المعدنية عبر ساق "جو" منحرفة قليلا عن العظم والشريان الفخذي.

يقول "جو": منذ ذلك الحادث وأنا أعتبر نفسي أعيش وقتا إضافيا فوق عمري الأصلي، وكل يوم يمثل لي "حياة جديدة"، لقد احتفظت بالقطع النقدية طوال هذه المدة لتذكرني بحظي السعيد، وهذه المرة الأولى التي أخرجها من العلبة منذ سنوات، فقد اقتنعت أن "شروق الشمس كل صباح هو تذكرة كافية لي بأن أعيش حياتي كما ينبغي أن أكون، سعيدا، راضيا، وشاكرا لهذا "الوقت الإضافي" الذي منحته الأقدار لي"!

ولم أفهم ما قصده صديقي "جو" بعبارة "الوقت الإضافي" إلا حين أصبت بمرض في كليتي استمر 4 سنوات اعتمدت خلالها على آلة للغسل قبل أن أجري عملية زراعة أتاحت لي أن أعيش بشكل طبيعي بعد معاناة مع المرض لتتغير نظرتي إلى الحياة بعدها، فلم أعد أهدر الوقت الثمين من حياتي مؤنبا نفسي على الفرص الضائعة أو مهنئا إياها على النجاحات، لقد جعلني الوقت الإضافي الذي حصلت عليه قانعا بمن أنا وما أنا، وصارت علاقاتي بالآخرين أقل تعقيدا وأكثر إيجابية، لم أعد أتوقع أن يحبني أحد أو يتفق معي أو يشاركني حماسي، ورغم أنه كان يسرني حصولي على هذه المباهج فإنني كنت أتقبل حرمانها، ولأني لم أعد أخشى إنسانا صرت أكثر استعدادا لأصرح بما في خاطري تجاه الأشياء والأفكار من حولي، وفي الوقت ذاته لا أحاول فرض عقائدي وآرائي على الناس، أو أن أسيء إلى صحتي وأحرق روحي من أجل توافه الأمور والناس!

والواقع أنه ليس منا أحد لم يشعر يوما أن حياته على وشك النهاية عبر حادث مروع أو مرض مميت أو موقف خطير ينجو منه ليمنح وقتا إضافيا يعيشه وفرصة أخرى يغير فيها حياته ويقدر قيمة اللحظة التي يعيشها ليصبح إنسانا أفضل، فكم عدد من استثمروا هذا الوقت الإضافي فيما ينفعهم وينفع الناس؟! لا أحسبهم كثيرين، فطبيعة الإنسان هي النسيان، وقليل من يتعلمون من تجاربهم ويستفيدون منها، وهو أمر ينطبق على المجتمعات كما ينطبق على الأفراد، فكم من مجتمع منحته الأقدار وقتا إضافيا لم يقدر قيمته ولم يستفد منه وعاد أسوأ بكثير مما كان، وانظروا حولكم، لتدركوا ما أعني تماما!