الإنسان خطّاءٌ بطبعه، فالنفس الإنسانية أمّارةٌ بالسوء تقبل على الخطايا بجهل منها أو بقصد متعمد، في فضاء من المغريات، خصوصاً إذا لم يزجرها زاجر أو يمنعها فعلُ قاهر، وقد أكد القول الغربي الشائع Absolute power corrupts absolutely فالقوة المطلقة قوة فاسدة لا حدود تعطلها أو تحجِّم من تداعياتها اللامتناهية، التي هي في الغالب ما تؤدي إلى فساد شأن الحكم ومصالح الرعية.

Ad

وليس أدل على ذلك من أوروبا القرون الوسطى، التي قاست حروباً مدمرة وأوضاعاً مزرية هي في الأساس نتاج لهذه السياسة والسلطة التي امتزجت في أحيان بالسلطة الإلهية من خلال إضفاء هالة ربانية على مواقع الملوك والأباطرة من قبل الكنيسة، حيث أصبح الاختلاف معها أو حتى توجيهها ونقدها أمر من المستحيلات المستعصية، فمن يعارض قرار الملك فإنه لا محال يعارض أمر الرب ورغباته. عانت أوروبا ما عانته من هذا الفكر السياسي وانفراد الحكام.

في كثير من الأحيان كانت هناك قرارات صالحها وجوهرها متمركز حول مصالح الملك واحتياجات الحكام الشخصية دون اكتراث بمصالح المجتمع، وغير عابئين باحتياجات فئاته المختلفة، لهذا قاست أوروبا شرور هذه الفترة التاريخية التي استمرت لألف عام ويزيد، حروب مستمرة وانهيارات متتالية، عاشت في ظلها ظلام المعلوم وجور المجهول.

إلا أن أوروبا انتفضت في صحوة إنسانية لتقف أمام هذا الفكر الهدام الذي همّش الإنسان والإنسانية، وألغى دور الشعب في تقرير مصير حياته وحماية مكتسباته. صحوة فكرية ديمقراطية، للفرد والمجتمع موقع مكانة وقيمة، جميع الفئات والطبقات المجتمعية بما فيها طبقة الساسة والحكام مسؤولون عن تطور المجتمع وبنائه وحياته؛ منظومة جاءت لتقول "كلنا مشاركون كلنا مسؤولون". إن كانت التي أوروبا انتفضت لحالها ومصيرها من خلال منهاج إنساني ثمرة لما عانوه، فإن العرب والمسلمين من خلال منهاج منزّل وقول مفصل جاء ليؤكد ما وصل إليه الغرب قبله وبقرون سالفة، حيث احتضن الإسلام الفكر والعقيدة السياسيين اللذين نظما أصول وجوهر الممارسات السياسية من خلال حقيقتين خصهما الله عز وجل بذكرهما: مبدأ الشورى وعادلية الحكام في مهامه ومسؤولياته أمام الرعية.

هذان المبدآن يعتبران ركيزة للنظام السياسي الإسلامي العادل، ودون ذلك فإن الحق سبحانه تركه لعباده ساحة لإبداعاتهم واختراعاتهم الذهنية والفكرية الخلاقة في بناء ما يتلاءم مع طبيعة مجتمعاتهم.

هنا تتجلى روعة الخالق في توجيهاته لمخلوقاته، فالتقت وبعد عناء وتضحيات إنسانية، التجارب البشرية بأفكارها الإبداعية، لتؤكد فكر الرحمن منزلاً لعباده، والذي هو رحمة بهم، وشفقة بجهلهم وقلة معرفتهم.

فلو أننا التفتنا إلى ما جاء من قول فصل وذكر عدل، واستذكرنا ما أراده الله لنا آنذاك لما عانت الإنسانية ما عانته... فسبحان ربي عندما قال "إن الإنسان كان ظلوماً جهولاً".

امتزاج هذين الفكرين وتعاضدهما جاء متضمناً في محتواه، معنى المسؤولية الإنسانية المشتركة لفئات المجتمع وجماعاته، تحصيناً لهم ولقراراتهم المصيرية السياسية بدءاً بوضع هذه الأهداف والغايات وانتهاءً بتحقيق الاحتياجات المجتمعية وتنفيذها وإشباعها، كما أنها تحصين منهم، ومن شرور أنفسهم التي قد تسوّل لهم إن تُركت دون رقيب أوحسيب أو بدت في الأفق ملامح مفسدة لقريب... أفلا تتفكرون؟ أفلا تعلمون؟