الضجة التي أثيرت حول ما كتبه الشاب السعودي حمزة كاشغري، ابن الثلاثة والعشرين ربيعاً في «تويتر» وصنّفت على أنها كتابات مسيئة لذات الرسول صلى الله عليه وسلّم وتمسّ الذات الإلهية ليست نصرةً للدين بشيء، حتى لو اغرورقت عينا أحد المشايخ بالدموع، وحتى لو استلّ من يظنون أنهم الغيورون الوحيدون على الإسلام سيوفهم، وسُخّرت الخُطب العصماء للمطالبة بدم الكاتب، كل ذلك يعكس أزمة اجتماعية وأخلاقية بالدرجة الأولى، ولكنها ليست دينية بأي حال من الأحوال.

Ad

فلو افترضنا جدلاً أن الكاتب أتى كفراً بيّناً، وجرماً منكراً في تغريداتٍ تؤدي إلى الردّه، فإننا نعرف أن المُرتدّ يستتاب، وإن لم يرجع يقام عليه حد القتلّ، والكاتب وضّح في صفحته على «التويتر» وحتى قبل أن تتفاقم المشكلة ويصدر أمر إلقاء القبض عليه رسميّا، أنه لا يقصد الإساءة إلى المصطفى، وأنه قد أُسيء فهمه، واستغفر، وقام بحذف تلك التغريدات أصل المشكلة، مما يعني أنه تراجع وتاب أمام الملأ وبذلك يُفترض أن تُطوى هذه القضية لو كانت شأنا دينيّاً خالصاً لوجه الله وانتفاضة في وجه مُرتدّ آثم، إلا أنّ ما حدث هو على العكس تماماً، حيث استمرّ البعض في تحريض أفراد المجتمع على تصفية الكاتب مباشرة عن طريق وضع عنوان بيته وخريطة تدل على سكنه للقيام بالمهمة النبيلة، وكان البعض الآخر أكثر «عدلاً» بأن حرّض السلطة بجبروتها على فعل ذلك!

إذن القضية ليست دينية، القضية ليست سوى تصفية حسابات بين تيارات مختلفة في المجتمع تتصارع على قيادة أفراده، واستعراض عضلاتها بشتى الطرق، حتى لو دفع آخرون حياتهم ثمناً لهذا الصراع، فالدم رخيص، والعمر لا قيمة له، ولا قيمة أيضا لثلاثة وعشرين ربيعاً (عمر حمزة) حتى لو احترقت ربيعاً ربيعاً،

أفهم أن تتجاذب القوى الاجتماعية والسياسية في وطن ما من أجل فرض سيطرتها، ولكن ما يحدث لدينا شيء آخر.

إننا نعيش في مجتمع أفراده مأزومون، محتدّون، محتدمون، نحن نعيش على فوهة بركان يغلي، قابل لقذف حممه في أي لحظة، كل فرد منا إصبع ديناميت قابل للانفجار.

اختلافاتنا دموية، وخلافاتنا دمار...

احتقان يسري في شرايين المجتمع... الكل ضد الكل...

احتقان طائفي... وفكري... ومناطقي... وفئوي... وطبقي...

احتقان على كافة المستويات

وما المطالبة برأس حمزة وغيره إلا إرهاص لهذا الاحتقان الذي يتجاوز العقل ومبادئ الخُلق الكريم في بعض مظاهره.

غليان يملأ الناس... يحرّض أطياف المجتمع بكل شرائحه ضدّ أطيافه الأخرى، حتى التيار المسمّى بالتنويري لم ينج من هذا.

تشاهد أحد «التنويرين» على التلفزيون في حوار مع شخص آخر يختلف معه في الرأي، فتسمع ما لا يسرّ من كلا الطرفين، وتُدهش للغة الحوار المتبادلة بينهما، وتتيقّن أن هذا التنويري لا يختلف في آلية التفكير عن ذلك الظلامي، وإنه لو كان بيد أي منهما سلطة لأطلق النار على الآخر لاختلافه معه، فضلاً عن مستوى الحوار المتدني بينهما!

إن الكل في هذا المجتمع بحاجة ماسّة إلى دراسات نفسية واجتماعية مكثفة وعميقة لمعرفة الخلل وعلاجه، وحتى يتسنى ذلك لا بد من إخضاع أفراده للإقامة الجبرية في أحد المستشفيات المتخصصة تمهيداً للعلاج.