مصر والإلهام التونسي
منذ أسس محمد علي باشا الدولة المصرية الحديثة، في مطلع القرن التاسع عشر، ومصر لم تتوقف عن إلهام محيطها الإقليمي، سواء كان هذا الإلهام في الخير أو الشر، والصواب أو الخطأ، والحداثة أو الظلامية، وفي الديمقراطية أو الطغيان، وفي الهزيمة أو الانتصار.لكن الثورة التونسية مثّلت حداً فاصلاً في هذا السياق التاريخي المطرد؛ فقد كانت تونس موطن الشرارة المبهرة التي فجّرت الربيع العربي في أكثر من دولة في الإقليم، وظلت ثورتها قادرة على الاستمرار وتخطي العقبات الجسام وتحقيق الأهداف الرشيدة، هدفاً تلو الآخر، وإلهام الجيران في آن.
وفي حين ترتبك الثورة المصرية، ويتزعزع اليقين أحياناً في قدرتها على تحقيق الانتقال السلمي للسلطة إلى حكومة ورئيس منتخبين انتخاباً حراً نزيهاً، تنجح تونس في تنظيم انتخابات الجمعية التأسيسية، بشكل مرضٍ على صعيدَي النزاهة وكثافة المشاركة.تبدو تونس وقد نجحت في تجنب الغرق في الفوضى، وفي إبعاد شبح الحكم العسكري أو البوليسي إلى حد كبير، لكن قدرتها على تفادي الوقوع في براثن دولة ارتدادية تتوسل بالحكم الديني مازالت على المحك، وإن كانت الإشارات المبدئية توحي بأنها في طريقها لتحقيق هذا الهدف.فرغم الفوز الكبير لحزب النهضة الإسلامي بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي، فإن زعيم الحزب راشد الغنوشي، والكثير من قيادات حركته ذات المرجعية الأصولية، واصلوا إطلاق تصريحات مطمئنة في صدد احترامهم للتعددية والتنوع والحريات الاجتماعية والسياسية.فقد أعطى الغنوشي، في أعقاب فوز حركته بنحو 41 في المئة من إجمالي مقاعد المجلس التأسيسي، وهي أغلبية ليست ساحقة لكنها حاسمة ومريحة، أعطى إشارات واضحة إلى نيته تجنيب البلاد مخاطر الانجرار إلى حكم إسلاموي شكلاني، كذلك الذي أورث دولاً مثل إيران والسودان كوارث ومشكلات جسيمة.يقول الغنوشي إن حزبه لن يعمل على فرض الحجاب على نساء تونس "لأن جميع المحاولات التي سعت إلى فرض الحجاب في دول عربية باءت بالفشل"، كما أنه لا يبدو عازماً على الانقضاض على قوانين الأحوال الشخصية، التي تم سنها في عهدي بورقيبة وبن علي العلمانيين بامتياز، والتي يرى مؤيدوها أنها "أنصفت" المرأة إلى حد كبير، في ما يدفع نقادها بأنها "تجاوزت ثوابت إسلامية". ليس هذا فقط، بل إن الرجل أكد أن المرأة ستشارك كوزيرة في الحكومة التي سيقودها حزبه، على الأرجح، بوصفه صاحب الأغلبية في الجمعية التأسيسية، كما أن تلك المشاركة ستشمل المرأة بشكل عام "سواء كانت محجبة أو غير محجبة".وإضافة إلى ذلك، فإن حزب النهضة، الذي خرج من رحم "حركة الاتجاه الإسلامي" ذات المرجعية الإسلامية، أعلن، في أكثر من موضع، أنه لا يعتزم وضع قواعد معينة للأنشطة المصرفية في البلاد، فضلاً عن أنه لم ير أي دواعٍ لتقييد لباس السائحين، أو فرض حظر على بيع الخمور وتقديمها في الأماكن السياحية، أو منع ارتداء ملابس السباحة في الشواطئ للتونسيين أو الأجانب. تعد تلك الإشارات مطمئنة بالطبع للمجال السياسي المدني والعلماني والليبرالي في تونس، ليس دفاعاً عن تلك الممارسات في حد ذاتها، ولكن لأن تلك التوجهات تعني أن حزب النهضة لا يهدف إلى اتخاذ مواقف من تلك التي تُكسب شعبية واسعة في المناطق الفقيرة وبين المواطنين المهمشين والأقل تعليماً، من دون أن تنطوي على أي مكاسب تنموية حقيقية.لطالما استسهلت جماعات إسلامية في عالمنا العربي لعبة اتخاذ قرارات تتعلق بالفهم النصوصي الحرفي للقواعد الإسلامية، والمضي سريعاً في عمليات أسلمة شكلانية، تنطوي على تفعيل بعض القواعد والالتزامات التي يُظن أنها "جوهر الإسلام"، ثم لا يطرأ أي تغير يذكر في أعقاب ذلك على الأداء السياسي والتنمية وحال الاقتصاد والخدمات.جرى ذلك في أنظمة عديدة حاول الإسلامويون الذين اعتلوها الاكتفاء أو البدء بالإجراءات الشكلية المبنية على تأويلات بعينها، بدلاً من التعويل أولاً على الجهد السياسي الفعال، الرامي إلى خدمة المجتمع، وتحقيق أهداف الدولة، نحو تعزيز قوتها الشاملة، ومن ثم اكتساب قاعدة شعبية واسعة، يمكن أن تطالب بالمزيد من الإجراءات الإصلاحية والتنموية، التي يدعو إليها أصحاب الاتجاهات الإسلامية، بما فيها تلك المتعلقة بالشكل، طالما أنهم أحرزوا نجاحاً في ما يختص بالمضمون وأظهروا نجاعة ونجاحاً.لكن ما تقدمه التجربة التونسية يبدو مختلفاً، حيث تشير أدبيات "النهضة" وأحاديث الغنوشي المختلفة إلى إدراكه الفرق بين تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا من جهة، وتجارب بعض الأحزاب والحركات الإسلامية في بلدان عديدة من جهة أخرى. إن نجاح التجربة التونسية، خصوصاً إذا صدق حزب النهضة في تصريحاته المبدئية، واستطاع تكوين حكومة وطنية ائتلافية قادرة على الإنجاز، ولم يستبعد أياً من التيارات السياسية الوطنية، وتعاون مع العلمانيين والليبراليين كما أكد أكثر من مرة، سيعزز فرص الاتجاه الإسلامي المعتدل في مصر، وسيضع قيداً على الاتجاهات الأصولية المتعصبة والارتدادية.ثمة أكثر من سيناريو سيئ يحظى بفرص، للأسف الشديد، في الواقع المصري راهناً، أحد هذه السيناريوهات يتعلق بإطالة أمد الحكم العسكري، أو طمع العسكر في السلطة بشكل أو بآخر، وثانيها يتصل بفشل الثورة في الاكتمال وإعادة إنتاج النظام السابق على نحو أو آخر، كما أنه لا يمكن بالطبع استبعاد سيناريو الانفلات أو الفوضى، لكن السيناريو السيئ الأكثر حظوظاً بالفعل يظل متعلقاً بإمكانية هيمنة إسلاميين غير معتدلين على الحكم، وبالتالي سحب البلاد إلى حالة ظلامية تحت زعم "صبغ المجتمع بصبغة الإسلام".ويبقى الأمل في أن يبرهن حزب النهضة في تونس على صدق تطميناته وأطروحاته التي تشير بوضوح إلى تبنيه اتجاهاً معتدلاً منفتحاً ووسطياً، وعدم استبعاده التعاون الفعال مع أطياف العمل السياسي التونسي من علمانيين وليبراليين وشيوعيين وغيرهم، والتزامه بصيانة الحريات الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن تحقيق أداء سياسي فعال وإنجازات تنموية ملموسة.ويبقى الأمل كذلك في أن يستطيع هذا التطور التونسي المرجو أن يلهم فصائل الإسلام السياسي في مصر، وخصوصاً جماعة "الإخوان المسلمين" التي تحصد مكاسب في الشارع والنقابات المهنية يوماً بعد يوم، والتي يبدو أن ذراعها السياسية الممثلة في "حزب الحرية والعدالة" ستنجح في حصد حصة معتبرة في الانتخابات البرلمانية المنتظرة نهاية شهر نوفمبر المقبل.وكما ألهمت الثورة التونسية نظيرتها في مصر، فالأمل أن ينجح مسار بناء الدولة الجديدة في تونس في إلهام نظيره المصري، بحيث يثمر "الربيع العربي" أكثر من زهرة، وينجح الإسلاميون العرب في نقل النموذج الحداثي التركي، ونبذ النماذج الارتدادية المقبضة التي أورثت بلدانها الانكسار والذل بزعم نصرة الإسلام... وهو منها براء.* كاتب مصري