مرافعة المندوب السوري الدائم في الأمم المتحدة، من فوق منبر الجمعية العمومية لهذه المنظمة الدولية، لم تكن موجهة إلى الذين كانوا يجلسون أمامه ويستمعون إليه مباشرة، بل إلى الذين كانوا يتابعونه من دمشق، والذين كانوا يتابعونه من دمشق هم أجهزة المخابرات التي يزيد عددها على سبعة عشر جهازاً، والتي كانت بالتأكيد تدقق في كل حرف قاله بشار الجعفري لتتيقن من أنه لايزال يحفظ درسه، أم أن الضرورة تقضي بإعادته إلى "المركز" ليكون تحت المراقبة الحثيثة.

Ad

كانت مرافعة هذا المندوب مملة واستعراضية أكثر منها إقناعية، وكانت سلسلة من الادعاءات وتزوير الحقائق التي يعرفها الشعب السوري كله، ويعرفها العالم بأسره، وهنا فإن ما لاريب فيه أن ما جاء في تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة نافي بيلاي هو غيض من فيض، وأن حكاية "القاعدة" التي بقي يرددها بشار الجعفري، وهو يوجه الكلام عبر الشاشات الفضائية ليس إلى الجالسين في قاعة الأمم المتحدة وإنما إلى الجالسين في دمشق، عبر خطاب نمطي تقليدي، يُذكر من استمعوا إليه من الذين اشتعلت رؤوسهم شيباً بخطابات الأستاذ أحمد الشقيري، رحمه الله، عندما كان مندوباً لإحدى الدول العربية في الأمم المتحدة، قبل أن يصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية بأعوام عدة.

لم يكن ما قاله هذا المندوب، الذي تصرف وهو يلقي خطابه على طريقة الممثل دريد لحام في مسلسل "حمام الهنا" الكوميدي الشهير، مقنعاً حتى له هو نفسه، إذ في عصر كل هذا التطور الهائل في تقنيات الإعلام لم يعد أي شيء خافياً، إلا ما يرتكب من جرائم في أقبية وزنازين أجهزة المخابرات، وتقنيات الإعلام المتطورة هذه بقيت تنقل صوراً مرعبة لأطفال مهشمة جماجمهم وممزقة أجسادهم، وبقيت تنقل صور مدافع الدبابات وهي تقصف أحياء حمص وإدلب، وصور راجمات الصواريخ وهي تصب حممها على الزبداني وحماه وحرستا ودرعا وباقي المدن السورية.

عندما أطلق ذلك المجرم غوبلز وزير إعلام الفوهرر أدولف هتلر نصيحة "اكذب واكذب... ثم اكذب حتى يصدقك الناس" فإن أجهزة التصوير كانت لاتزال بدائية، وإن الإعلام كان لايزال يقتصر على أجهزة الراديو الكسيحة والمتخلفة، وعلى "الكاميرات" التي تشبه "صناديق العجائب"، أما اليوم في عصر تقنية المعلومات فإن الكذب حبله قصير، ولذلك فإن ما قاله مندوب النظام السوري لدى الأمم المتحدة قد ووجه في العالم بأسره وليس فقط في قاعة الهيئة الدولية بابتسامات السخرية وبمد الألسنة في وجه حركاته المسرحية التي نقلتها شاشات كل فضائيات الكرة الأرضية.

ثم ومع أن كل ما قاله هذا المندوب، الذي حرص على أن يقلد دريد لحام في مسلسل "حمام الهنا"، وهو يلقي خطاباً نمطياً مسحوب الدسم لم يقنع حتى المؤيدين لنظام دمشق من الذين استمعوا إليه وتابعوه، فإنه كان من الضروري أن ينهض أحد الذين كانوا في قاعة الأمم المتحدة من ممثلي الدول، ويقول له: لقد استمتعنا بكل ما قلته، لكن لماذا يا ترى لم تسمحوا لوسائل الإعلام العالمية بالدخول إلى بلادكم لتسجيل وقائع كل هذا الذي جرى خلال أكثر من أحد عشر شهراً؟!