زمن البعث السوري - تاريخ موجز - للكاتب حازم صاغية - 1 - عفلق سمّى الإسلام معجزة العروبة والأكثرية السنيّة لم تهضم آراءه

نشر في 12-09-2011 | 00:01
آخر تحديث 12-09-2011 | 00:01
الأرسوزي اعتبر الجاهلية عصر العرب الذهبي... وحدّته نفّرت الرفاق منه

تنشر «الجريدة» على حلقات كتاب «زمن البعث السوري: تاريخ موجز» للكاتب حازم صاغية قبل طباعته وتوزيعه قريباً، وتنبع أهمية الكتاب خصوصا من تزامنه مع «الربيع العربي» و«الثورة السورية» على نظام «حزب البعث» في نسخته النهائية المتمثلة بحكم الرئيس بشار الأسد.

يحتوي الكتاب بين دفتيه قصة «موجزة» لهذا الحزب الذي طبع الحياة السياسية العربية مدة نصف قرن؛ من خلال سيرة شخصياته الأساسية وتفاعلهم مع أحداث سورية والمنطقة منذ نشوء الفكرة البعثية مع «الأساتذة» الأولين، مروراً بحكم العسكر الحزبي، وخصوصاً فترة الأسد الأب التي امتدت ثلاثة عقود، وانتهاء بمرحلة الأسد الابن التي تكرر المشاهد الدموية لكل العهود البعثية.

عفلق والأرسوزي: البدايات الأولى

في 1947، بعد عام واحد على الجلاء الفرنسيّ عن سوريّة، ولد "حزب البعث العربيّ"، وكانت تلك هي الولادة الرسميّة، إذ سبقها تبشير بـ"البعث" في مقاهٍ دمشقيّة كان الطلاّب يتحلّقون فيها حول أستاذين عائدين من باريس، هما المسيحيّ الأرثوذكسيّ ميشيل عفلق والمسلم السنّيّ صلاح الدين البيطار، ومعهما دمشقيّ ثالث لم يعمّر طويلاً اسمه مدحت البيطار.

و"البعث" هذا كانت مقدّماته قد ظهرت في "الإحياء العربيّ"، ذاك العنوان الذي يستعيد "عصر النهضة" وعناوينه، والذي في ظلّه أطلق الثلاثة دعوتهم أوّلاً، قبل أن ينشطوا تبشيريّاً، لكنْ في أجواء مشابهة، كان أستاذ آخر درس أيضاً في باريس، يُدعى زكي الأرسوزي، يبشّر بـ"البعث العربيّ"، والأخير، وهو علويّ المذهب، لم يكن دمشقّياً، بل جاء لاجئاً من أنطاكية في لواء الإسكندرون بعد استيلاء الأتراك عليه في 1938، بموجب اتّفاق بينهم وبين الفرنسيّين.

والثلاثة ربطتهم صلة متفاوتة بتجربة سابقة هي "عصبة العمل القوميّ" التي أسّسها، في 1933، اللبنانيّ علي ناصر الدين ومعه بعض شبّان سوريّين وعراقيّين ولبنانيّين. بيد أنّ "العصبة" التي توقّف عملها بعد ستّ سنوات، كانت أشبه بمحفل ضمّ وجهاء متعلّمين بعضهم يمتّ بالنسب إلى الأرستقراطيّة القديمة، بينما يتّسم نشاطهم بخطابيّة وإنشائيّة موسميّتين لا تتجاوزان محيط المحفل المغلق.

عفلق والبيطار والأرسوزي

والثلاثة، عفلق والبيطار والأرسوزي، لم يُعرفوا بودّ متبادل، وقد نُقلت عن ثالثهم عبارة شهيرة في أوّلهم تقول إنّ "الأدب خسره فيما ابتُليت به السياسة"، لكنّ الأمر كان أكثر من عبارة شاردة، إذ الأرسو

زي رأى في منافسه الدمشقيّ تجسيداً للفشل وانحطاط الهمّة والكسل الفكريّ، وبينهما قامت فوارق أعمق في عدادها أنّ المعلّم الأنطاكيّ اعتبر الجاهليّة، لا الإسلام، عصر العرب الذهبيّ، كما عوّل، متأثّراً بالأدبيّات العرقيّة الأوروبيّة، على "عنصر" عربيّ متفوّق، وهو ما لا أثر لمثله في كتابات الأستاذ المنافس.

وإذ اهتمّ الأستاذ الإسكندروني بفقه اللغة (الفيلولوجيا) ودوره المفترض في قيام الأمّة وتكوّن القوميّة، قصر الأستاذ الدمشقيّ تركيزه على "وحدة" اللغة والتاريخ والوجدان، إلاّ أنّ الطباع الشخصيّة الحادّة للأرسوزي كانت، على ما يبدو، ما نفّر الرفاق الصغار منه دافعاً بهم إلى أحضان الأستاذين الآخرين.

وكان ممّن ورثهم هذان الأخيران عنه شبّان لعبوا لاحقاً أدواراً مهمّة في تاريخ البعث، كسامي الجندي ووهيب الغانم، فأضيفوا إلى أوائل البعثيّين الذين كان منهم جلال السيّد، صاحب الملكيّات الزراعيّة في دير الزور والهاجس بتفوّق عرقيّ للعرب على سواهم، ومنصور الأطرش، نجل قائد الثورة الدرزيّة في العشرينيات، سلطان باشا الأطرش، وجمال الأتاسي، الطبيب النفسيّ وابن العائلة السياسيّة الحمصيّة العريقة.

«الأنبياء الصغار»

لكنّ كتلة البعثيّين الأوائل، ممّن أسماهم عفلق "الأنبياء الصغار"، ظلّت ضعيفة محدودة العدد، أقرب إلى الشَلل منها إلى الفعالية. وهي تميّزت، كذلك، بملامح سوسيولوجيّة لا تخطئها العين: فأكثريّتها شبّان صغار من الطلاّب والتلاميذ، يغلب عليها أبناء المناطق الريفيّة الصادرون عن طوائف أقليّة، درزيّة وعلويّة وإسماعيليّة، وهؤلاء وفدوا إلى دمشق للدراسة فواجهوا عالم الغربة فضلا عن صدّه لهم وتعاليه عليهم.

هكذا وفّر البعث تعويضاً إيديولوجيّاً مزدوجاً لهم يقاومون به تشاوُف "عاصمة الأمويّين": فهم، من جهة، صاروا أصحاب "رسالة خالدة" توارثوها جيلاً عن جيل، كما أنّهم، من جهة أخرى، مَن كُلّفوا الردّ على تفتّت الوطن وتقطّع الجماعات الأهليّة بطوبى "الأمّة العربيّة الواحدة" المتعالية والممتدّة "من المحيط إلى الخليج".

والأفكار الدائرة في الفلك البعثيّ كانت بسيطة، مصاغة بلغة عفلق الإنشائيّة والأنيقة التي احتوتها مقالات قصيرة نُشر معظمها افتتاحيّاتٍ في جريدة "البعث"، ووفقاً لتلك الأفكار، مثّل البعث "الانقلاب" العميق على النفس، والعودة إلى "الفطرة" التي شوّهها استعمار لا يقتصر على الأوروبيّين بل يضرب جذره في "الشعوبيّات" الفارسيّة والتركيّة التي لم تظهر في التاريخ الإسلاميّ إلاّ لتسويد صفحة ذاك التاريخ والإساءة إلى صنّاعه العرب. وإنّما عبر البعث والعودة إلى الفطرة يستعيد العرب وحدةً لم تبارحهم، في ظنّ عفلق، إلاّ مؤخّراً جدّاً، كما يحرزون حرّيتهم التي هي حريّة الأمّة العربيّة قبل أن تكون حرّية العرب الأفراد.

أمّا الاشتراكيّة، التي لم يُسمَّ بها الحزب في البداية ولا تكنّى، فلا تمتّ بصلة إلى الماركسيّة وصراعها الطبقيّ، إذ هي، مثل القوميّة، "حبّ قبل كلّ شيء"، حبٌّ لا تنقطع الوشائج بينه وبين أصالة العرب ونبلهم، وهذا جميعاً ما سوف يسوقهم بيده إلى حيث "ظفر الحياة على الموت".

وفي هذه المعاني الغامضة والجريحة، عُدّ البعث صيغة بسيطة أخرى من صيغ النزعة الخلاصيّة واقتراحاتها التي تأخذ بأيدي طالبيها من العتمة الشاملة إلى النور الساطع، ومن عوالم الخطأ والظلم والإجحاف والبعثرة إلى رحاب الصواب والعدالة والتمكّن في الأرض.

الإسلام معجزة العروبة

ولئن كان عفلق مدعوّاً لأن يدلي بدلوه في أمر الإسلام، لأنّه يحتلّ ما يحتلّه في الحياة العربيّة، ولأنّه هو نفسه مسيحيّ، فقد سمّى الإسلامَ معجزة العروبة وخير ما أنتجته العرب، كما اعتبر نبيّه بطلهم الأبرز الذي كان "كلّ العرب"، فما على العرب اليوم كي يظفروا إلاّ أن يكونوا "كلّهم" محمّداً، وقد حاول "الأستاذ"، جرياً على تقليد محافظ شائع آنذاك، أن يضع الدين العربيّ في مواجهة "الإلحاد" الشيوعيّ والمتغرّب، فضلاً عن تطويعه في الصراع ضدّ "الشعوبيّين" من أعداء القوميّة وكارهي العرب ووحدتهم.

بيد أنّ البيئة الإسلاميّة السنّيّة العريضة لم تعثر في عفلق على أستاذها، ولا في صورته عن الإسلام على صورتها، فمحمّد خاتم الأنبياء الذي أُرسل للعالمين، ومن ثمّ فإنّ سيامته بطل العرب والعروبة أقرب إلى كسر رتبة منها إلى إعلاء شأن. هكذا بدا "الأستاذ"، منذ البدايات، مهدّداً بالوقوع في فراغ: لا الأكثريّة السنّيّة تهضم آراءه التي تنقل التركيز من الإسلام إلى العروبة، ومن النبوّة إلى البطولة، ولا الأقليّات الدينيّة والمذهبيّة تستسيغ عروبيّته الحادّة الكارهة لـ"الشعوبيّين" و"التجزيئيّين".

عموميّات ماركسيّة

وعفلق، الذي كتب قصائد رومنطيقيّة في شبابه، استقرّت فيه تأثّرات ألمانيّة عدّة لم تتجانس، مطرّزةً بقليل التأثّرات الفرنسيّة المبعثرة، لكنّ إعجابه بوحدتي إيطاليا وألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر ظلّ يحفر عميقاً في نفسه، مثله في ذلك مثل كثيرين من أبناء جيله. وإلى تعريجه على نيتشه، ومن قبله فيخته، وربّما هيردر، اجتمعت له عموميّات ماركسيّة لا يبدو أنّها تركت فيه أثراً ملحوظاً، مع أنّه بُعيد عودته من باريس خالط أجواء الشيوعيّين السوريّين وساهم، بمقطوعات أدبيّة، في نشراتهم، لكنّ أكثر ما يدلّ على نقص الانسجام والتجانس في وعي عفلق أنّ العموميّات الليبراليّة وجدت، هي الأخرى، طريقاً إلى تفكيره، فقد نصّ، مثلاً، المبدأ الثاني من دستور الحزب على أن "حرّيّة الكلام والاجتماع والاعتقاد والفنّ مقدّسة لا يمكن لأيّة سلطة أن تنتقصها".

حسني الزعيم

يومذاك، في 1947، كانت سوريّة التي استقلّت لتوّها تبني دولة وتوسّع إدارة وجيشاً، وفيها تتبلور مصالح اجتماعيّة للطبقة الوسطى على اختلاف شرائحها، كما تبحث عن تعبير يكون خاصّاً بتلك الطبقة ويتولّى حمل مصالحها الصاعدة. وقد اقتطع البعثيّون لأنفسهم جزءاً صغيراً من هذا الطموح ومن لغته الجديدة، آملين أن يعمل المستقبل على توسيع رقعته، غير أنّ المستقبل سريعاً ما اصطفى الضبّاط الذين قفزوا، في 1949، إلى السلطة، بقيادة قائدهم الغريب الأطوار حسني الزعيم.

انقلابات

والانقلابات التي توالت بين 1949 وأواسط الخمسينيات كانت، من ناحية أخرى، وثيقة الصلة بـ"الصراع على سوريّة" بين الهاشميّين في العراق ونموذجهم الملكيّ وبين مصر الملكيّة ثمّ، منذ يوليو 1952، الجمهوريّة. ويبدو أنّ عفلق وحزبه كانا محيّرين في هذا الصراع، مع أنّ إشارات كثيرة ترجّح انحيازهما الأصليّ إلى العراق الهاشميّ، وقد كانت إحدى الإشارات توزير "الأستاذ" نفسه، إذ سُلّم حقيبة المعارف بعد انقلاب سامي الحنّاوي على حسني الزعيم، والذي اعتُبر انقلاباً عراقيّ الهوى على النفوذ المصريّ وأتباعه.

صحيح أنّ عفلق وحزبه كرها النموذج الملكيّ في بغداد، لكنّهما كرها أكثر الانقلاب العسكريّ المصريّ الذي قاده جمال عبدالناصر وخافا تعطيل الحياة الدستوريّة والحزبيّة، وفوق هذا، لم يغب العنصر العاطفيّ عن الخيار ذاك، فبعثيّو سوريّة الذين ارتبط شبابهم الأوّل بالحماسة لرشيد عالي الكيلاني في انقلابه على الإنكليز عام 1941، مساهمين في لجان "نصرة العراق" لهذا الغرض، امتلكوا هوى عراقيّاً لم يكنّوا مثله حيال مصر، فهذه الأخيرة إنّما بدت بعيدة وغريبة وناقصة العروبة في نظر عروبيّي المشرق الآسيويّ على عمومهم، وهم، من ناحيتهم، أوكلوا إلى أنفسهم مهمّة استكمال تعريبها حين تحين الفرصة.

وبعد كلّ حساب فإنّ العَلم الذي اختاره البعثيّون الأوائل لحزبهم لم يكن سوى علم "الثورة العربيّة الكبرى" في 1916، وهي "ثورة" الهاشميّين قبل أن تكون أيّ شيء آخر.

جلال السيد

كذلك لعب القطب البعثيّ جلال السيّد دوراً مميّزاً في دفع حزبه إلى الاندماج في هذا الهوى العراقيّ، فهو، فضلاً عن تعاطفه مع الهاشميّين العائد إلى خرافات الدم والنسب والأرومة، يصدر عن مناطق سوريّة الشرقيّة الشديدة التداخل مع العراق، لا بسبب التلاصق الجغرافيّ والمصاهرات فحسب، بل أيضاً بفعل توزّع ملكيّات الأراضي العشائريّة على أراضي البلدين، هناك، في تلك التخوم الحدوديّة، كانت الدعوة العروبيّة تعني أوّلاً، وقبل أيّ شيء آخر، إعادة جمع العشائر والملكيّات التي قسّمتها حدود الدول الوطنيّة الناشئة، وهذا ما وسم البعث مبكراً بميسم رجعيّ لم يستطع محوه كلّ الضجيج التقدّميّ اللاحق.

عفلق والحوراني: انقلابات المغامرين

في أواخر 1949 حدث الانقلاب العسكريّ الثالث في سورية المستقلّة، والذي قاده أديب الشيشكلي، وبالتدريج وطّد الزعيم الجديد دكتاتوريّة عسكريّة لم تُتح لسابقيه حسني الزعيم وسامي الحنّاوي اللذين اقتصر عهداهما على أشهر معدودة لا أكثر، ثمّ في خطوة تالية تعود إلى 1953، تولّى الشيشكلي مباشرة رئاسة الجمهوريّة فتخلّص بهذا من الواجهات التي كان يتلطّأ خلفها، أكانت مدنيّة كالرئيس هاشم الأتاسي، أو عسكريّة، كزميله فوزي سلو.

آنذاك، وفي مواجهة الدكتاتوريّة العسكريّة، طرأ التحوّل الأهمّ حتّى 1963 في تاريخ البعث السوريّ: إنّه الاندماج مع حزب جماهيريّ وفلاّحيّ الطابع أسّسه السياسيّ الحمويّ أكرم الحوراني وأطلق عليه اسم "الحزب العربيّ الاشتراكيّ"، وعن الاندماج هذا نشأ "حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ".

لكنّ الحوراني، الذي انضمّ في شبابه إلى السوريّين القوميّين، اختلف اختلافاً بيّناً عن عفلق والبيطار، لا سيّما عن الأوّل، فهو فضلاً عن كونه قائداً شعبيّاً كاريزميّاً وشجاعاً، سياسيّ برلمانيّ استطاع أن يقارع عائلات كبار الملاّكين في حماة، خصوصاً عائلتي العظم والبرازي، وأن ينتزع منها زعامة فقراء المدينة ومتعلّميها ومحيطها الريفيّ.

بيد أنّ صعود الحوراني كان يقتات على برلمانيّته ويُضعف التزامه بها، فقد آمن بالضغط على الحياة السياسيّة، التي يسيطر عليها ملاّكو الأراضي "الرجعيّون"، من خارجها، أي من المؤسّسة العسكريّة، ولمّا كانت اليد العليا في هذه الأخيرة لأبناء الأُسَر السنيّة والمدنيّة الثريّة، راهن الحوراني على دفع الشبّان الصغار من أرياف حماة إلى الجيش، وبين هؤلاء كانت نسبة الشبّان العلويّين مرتفعة نسبيّاً، إلاّ أنّ هذا التعديل في سلك الضبّاط وفي تركيبه ما كان ليُتاح لولا تجديد العهد الاستقلاليّ للكليّة العسكريّة التي ثُبّت موقعها في مدينة حمص، فقد تولّت الأخيرة توسيع نطاق المنتمين إليها، فاتحةً باب الانتساب أمام فئات طبقيّة ومذهبيّة ومناطقيّة لم تكن حصّتها في الجيش تتعدّى كثيراً الجنود العاديّين. وفي الوقت نفسه باشر أبناء المدن السنيّون انكفاءهم عن التطوّع فيه، يجذبهم القطاع الخاصّ النامي أو إكمال الدراسة والتخصّص العلميّ.

اندماج الحزبين

ولئن سعى عفلق والبيطار من وراء اندماج الحزبين إلى تأمين قاعدة شعبيّة أوسع، أراد الحوراني من ورائه الانفتاح على بيئة من المثقّفين الشبّان الذين يقيمون في دمشق من غير أن يكونوا بالضرورة دمشقيّين، لكنّ كلفة الاندماج هذا لم تكن، في أيّ حال، بسيطة. ذاك أنّ نزعة الحوراني الحاسمة في جمهوريّتها واشتراكيّته الشعبويّة وعداءه للهاشميّين في العراق والأردن، بدأت تدفع الحزب في اتّجاه مصر الناصريّة وشعبويّة نجمها الصاعد.

وفي السياق هذا خرج جلال السيّد ومَن يمثّل من حزب البعث، ناعياً عليه فلاحيّته وإيثاره العامّة على أبناء الأرومات والدماء الأصفى، ومن ثمّ تفضيله ضابطاً مصريّاً أبوه ساعي بريد على أحفاد رسول الله وذرّيّته من الهاشميّين.

الانقلاب على الشيشكلي

وفي شباط (فبراير) 1954 أطيح أديب الشيشكلي بانقلاب عسكريّ آخر لعب فيه الضبّاط البعثيّون، لا سيّما الحمويّين منهم الأقرب إلى الحوراني، مصطفى حمدون وعبدالغني قنّوت، دوراً محوريّاً. وبالفعل أعيد الاعتبار للحياة السياسيّة بعد الانقلاب، واعتُرف للأحزاب بشرعيّة عملها، بحيث اكتسب النظام ظاهراً ديمقراطيّاً برلمانيّاً، إلاّ أنّ التناقضات التي كانت تعصف بسورية، وضراوة التنافس الدائر حولها بين مصر الناصريّة وبين العراق والأردن الهاشميّين، حرمت الحياة السياسيّة المستعادة الاستقرار والإقلاع.

اغتيال المالكي

فقد اغتالت عناصر من الحزب السوريّ القوميّ، الملتحق يومها بالمحور العراقيّ الأردنيّ، الضابط البعثيّ عدنان المالكي، وما لبث الاغتيال أن شكّل فرصة مثلى للأحزاب المتعاطفة مع القاهرة، لا سيّما البعث والشيوعيّين، كي تباشر حملة استئصال للقوى المقرّبة من الهاشميّين دفع ثمنها غالياً السوريّون القوميّون و"حزب الشعب" الحلبيّ.

ولم يحل هرب الضابط السوريّ القوميّ غسّان جديد إلى لبنان، الذي كان يحكمه حليف الهاشميّين كميل شمعون، دون اغتياله في بيروت برصاص موظّف في "المكتب الثاني" السوريّ.

تصفيات

في هذه الغضون، وفي مناخ التصفيات الجسديّة، باتت قبضة من الضبّاط القوميّين العرب واليساريّين تمارس الحكم الفعليّ، من خلف الواجهة

السياسيّة التي يقف على رأسها الرئيس شكري القوتلي. وكان أبرز هؤلاء رئيس أركان الجيش المقرّب من الشيوعيّين، عفيف البزري، وصديق البعثيّين حتّى ذاك الحين، رجل "المكتب الثاني"، عبدالحميد السرّاج.

وإذ تحوّل جمال عبدالناصر، بعد حرب السويس في 1956، بطل العرب المعبود، تحوّل سفيره في دمشق، ووزير خارجيّته اللاحق، محمود رياض، إلى ما يشبه المفوّض السامي، تتحلّق حوله القوى الصاعدة المناوئة للهاشميّين بمدنيّيها وعسكريّيها طالبةً رأيه ومشورته.

الوحدة المصرية السورية

وكان البعث الطرف الذي تولّى دفع الأمور، ودفع اللغة السياسيّة، أبعد كثيراً ممّا كان يمكن أن تستقرّ عنده، هكذا وُضعت الوحدة الفوريّة مع مصر الناصريّة على رأس جدول الأعمال الساخن، كما حُوّلت شعاراً تُسلّح به جماهير المدن التي وجدت في "الأسمر العربيّ" منقذها، وفي الوحدة معه إنقاذها. ولئن عُمّمت في وصف الوحدة المصريّة – السوريّة صورة الكمّاشة التي تطبق على إسرائيل من طرفيها الشماليّ والجنوبيّ، فواقع الأمر كان شيئاً آخر مختلفاً تمام الاختلاف.

كسر احتكار الغرب للتسلح

ذاك أنّ وضع سورية كان يومها ما يحتاج إلى إنقاذ فعليّ، فمنذ التوصّل إلى صفقة تسلّح مع تشيكوسلوفاكيا، في 1955، بدأ كسر الاحتكار الغربيّ لتسليح الجيوش في الشرق الأوسط، وهو ما لبث أن أكمله عبدالناصر بصفقة أكبر مع الطرف الشيوعيّ ذاته. وكان لهذا التطوّر الضخم، معطوفاً على ما أشيع عن سيطرة "الشيوعيّ" عفيف البزري على الجيش السوريّ، وتهيّؤ الشيوعيّين لـ"قضم" سورية، أن حوّل البلد قاعدة للراديكاليّة العاصية في أنظار الغربيّين المنخرطين في حرب باردة، إنّما حامية الوطيس، مع الاتّحاد السوفياتيّ والشيوعيّة، وبالفعل أقدمت تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسيّ، والتي سبق أنّ شاركت قبل بضع سنوات في الحرب الكوريّة، على حشد جيشها على الحدود الشماليّة لسورية، ما أثار رعباً فعليّاً لدى الكتلة العسكريّة الحزبيّة التي تمسك بزمام السلطة الفعليّة في دمشق.

خالد بكداش

لكنْ داخل الكتلة ذاتها، استولى رعب من نوع آخر على البعثيّين وعلى أصدقائهم القوميّين العرب المأخوذين بعبدالناصر وزعامته. ذاك أنّ الصعود "الأحمر"، معزّزاً بوصول أمين عام الحزب الشيوعيّ خالد بكداش إلى البرلمان، ليكون أوّل شيوعيّ يجلس في برلمان عربيّ، جعلهم يخلطون أوراق التحالف الجبهويّ، ومَن غيرُ جمال عبدالناصر، المكلّل بغاري "الحياد الإيجابيّ" و"عدم الانحياز"، فضلاً عن مواجهة الاستعمار الغربيّ وإسرائيل، يسعه الوقوف في وجه الشيوعيّة باسم القوميّة العربيّة؟.

على أنّ الأسباب الدافعة إلى الوحدة مع مصر كانت أكثر من ذلك وأعقد، فصراعات أواسط الخمسينيات كانت قد أقنعت البعثيّين والقوميّين العرب بأنّ أحداً لا يستطيع أن يحكم سورية، وأنّ بقاء الأمور على توازنها القلق هذا سيردّ البلاد إلى مسلسل الانقلابات العسكريّة التي استهلكت خمس سنوات من عمر دولة لم يكن حينذاك يتجاوز الأعوام السبعة. فالجمع بين دمشق وحلب، وبين المدن والأرياف، وبين المدنيّين والعسكريّين، وبين العرب السنّة والأقليّات الدينيّة أو المذهبيّة أو الإثنيّة، بدا من قبيل جمع الماء إلى النار. وكان يحفّ بالتناقضات هذه جميعاً ضغط العشائر الثقيل على الحياة المدينيّة الناشئة.

فوق هذا كان حزب البعث نفسه مسرحاً لصراع ضارٍ بين الأساتذة الثلاثة، عفلق والبيطار والحوراني، لا سيّما بين أوّلهم المتأمّل الذي كوفئ بلقب "فيلسوف القوميّة العربيّة"، والثالث المبادر الذي استعجل السياسة العمليّة بمبادئها كما بمناوراتها الخطرة، وقد أُريد من الوحدة مع مصر وعبدالناصر أن تفضّ هذا الاشتباك اليوميّ داخل حزب أملى الاضطرارُ العسكريّ في عهد الشيشكلي وحدتَه المصطنعة.

back to top