حكاية الطفلة العجوز
الكاتبة الألمانية جني اربنبك بلغت أعلى المراتب الإنسانية وأرهفها على الإطلاق في كتابة روايتها الأولى «حكاية الطفلة العجوز» التي تروي حكاية فتاة في الرابعة عشرة من عمرها وُجدت في الشارع ليلاً وهي تحمل بيدها دلواً فارغة ولا تعرف أي شيء عن نفسها، لا اسمها ولا اسم والديها ولا عنوانها، ولا يستدل عليها أحد، فتُرسَل إلى ملجأ للأطفال للدراسة والتعلم، ومن هناك ترافقها الكاتبة خطوة خطوة، تلتصق بها وتتوحد معها في مشاعرها وأحاسيسها وطريقة فهمها للأمور وردود أفعالها النفسية والبدنية الداخلية والخارجية في فهم إنساني عميق يعكس تصرفات هذه المخلوقة التي هي» ليست بالجميلة ولا بالقبيحة، وبوجه كبير مبقع يبدو مثل قمر تجثم عليه الظلال وكتفين عريضتين مثل سباحة، وباقي أعضاء الجسم كأنها نُحتت من قطعة واحدة، وهيئتها الكاملة منحنية انحناء بالغاً، وحتى مشيتها يبلغ من انحنائها أن كل من أراد أن يمسكها من يدها سوف تصل يده إلى لا شيء». فتاة يتيمة كل اليتم في عالمها الذي لا يصل إليه أحد، هذه الفتاة تحس في الملجأ الذي يفرح كل الصغار، ماعداها، حين يغادرونه في رحلة أو في مصاحبة أهلهم أو حين يخرجون للإجازة الصيفية، تحس «بطمأنينة بالغة من جراء تبوّئها هذا المكان الأدنى على الإطلاق والذي لا ينازعها فيه أحد، وهو مكان ما عادت مضطرة إلى إحرازه والحفاظ عليه عن طريق جهد فائق، بل ببساطة عن طريق النسيان الكامل وعما ينجم عن ذلك من الغباء المطبق».
تعيش في رضا رغم الإيذاء والسخرية المستمرة من زملائها أطفال الملجأ، سواء من هم في فصلها أو من هم في الملجأ معها. تأكل أكلها وما يتبقى في الصحون والقدور من فضلات، ولا تصل إلى حالة من الشبع بسبب خلل مرضي لا يوصلها إلى الإشباع. هذه الفتاة لا تستطيع المشاركة في الألعاب البدنية «تجلس في عزلة كبيرة على عارضة الجلوس بغير حراك مثل دجاجة دست منقارها تحت ريشها لتنام». يحدث لها تغير في حياتها عندما تكتشف مصادفةً سرقات التلاميذ أو إيذائهم لتلميذ أصغر منهم وتسكت وكأنها لم ترَ شيئاً، ومن هنا اكتشف زملاؤها أنهم يستطيعون استغلالها في تخبئة مسروقاتهم وتغطية أفعالهم السيئة، ويبدأون التعامل معها بأسلوب المشاركة والتواطؤ مما يغير من سلبيتها وعزلتها ويطور قليلاً درجةَ استيعابها وفهمها، فقليل من اهتمامهم منحها مكاناً تحت شمس دافئة. الفتاة تتفاقم حالتها الصحية وتصاب بالشلل الكامل وتنقل إلى مستشفى الملجأ، وهناك ينساها الجميع وكأنها عبء انتهوا من حمله. تحاول الفتاة أن تتمسك بالزمن عن طريق تذكرها لأوقات الحصص بحيث تتعايش مع ساعات الزمن الدراسية وهي في سرير المرض، لكن حالتها الصحية تتغير بعد تقليل حصص الأكل المخصصة لها مما يؤدي إلى نزول وزنها، وهنا تظهر المفاجأة للجميع حين بدأت الفتاة تتحول من طفلة في الرابعة عشرة من عمرها إلى امرأة في الثلاثين، وبعد مرور أسبوعين فقط برزت «ملامح امرأة وكأن المرض فنان أصاب آخر الأمر نجاحاً في استخراج صورة محتبسة في صخرة، فقد خلعت عنها حُلتها وخرجت من جلدها ذاته، وأنهت التنكر أمام كل العيون، وكأن طفولتها لم تكن سوى مُزاح أو نكتة، وكأنما أوتيتها لكي تروح وتغدو في الزمان من باب النزهة مثلما يتجول المرء في حديقة». رواية إنسانية رائعة بالرغم من أنها الرواية الأولى للمؤلفة، وجمالها في رأيي نابع من قدرة المؤلفة على التوحد مع البنت، فهي لم تكتب عنها بل أصبحت البنتَ ذاتها. السرد كان يهدأ ويتباطأ حتى يتماثل مع حالة الخمود والخمول والتخلف الغبي للفتاة، وينشط بفرحها عندما يتواطأ الصبيان معها فترتفع سيمفونية السرد ويزداد عنفوانها، ثم تعاود الأفول. كتابة محايدة تمام الحياد برغم إنسانيتها العالية إلا إنها كانت إنسانية بروح باردة، مشاعر الكاتبة لم تتغلب عليها بالانحياز. المدهش أيضاً هو لغة السرد التي استطاعت عكس الحالة الروحية والعقلية والعاطفية للفتاة، لذا جاءت الصفحات التي تعكس طريقة تلقيها وفهمها لما يدور حولها بلغة متعثرة لا تنتظم في شكل سردي منساب، فهي تتقدم وتتأخر في تعبيرها مما قربها من القارئ وساعد على فهم الشخصية.